اقتصاديو العرب

الشرق الاوسط

تحليل مقارن لادارة الأزمات الدولية وتأثيرها على المركب الأمني الاقليمي للدول الشرق أوسطية

تحليل مقارن لادارة الأزمات الدولية وتأثيرها على المركب الأمني الاقليمي للدول الشرق أوسطية

تلعب متغيرات النظام الدولي دوراً فى التأثير على المركب الأمني الأقليمي لدول الشرق الأوسط، وتتعدد هذه المتغيرات حيث تشمل على المتغيرات الامنية حيث يمكن أن تؤثر الأحداث العالمية على أمن الاقليم مثل الأحداث المتعلقة بالحرب الروسية – الأوكرانية وما أدت اليه من تفاقم مشكلة الأمن الغذائي ببعض الدول من بينها مصر على سبيل المثال، وهو ما أثر على نمط المساعدات النفطية من دول الخليج العربي لمصر حيث اضطرت دول الخليج– فى اطار من علاقات الصداقة والاخوة – إلى تكثيف الدعم المالى والسياسى للنظام المصري لمعالجة المشكلات المترتبة على تأثر سلاسل التوريد وارتفاع مستويات التضخم والتهديدات المتعلقة بالأمن الغذائي وتوفير الامدادات الغذائية للسكان.

كما تشمل على المتغيرات الاقتصادية مثل الحرب التجارية بين الولايات المتحدة الامريكية والصين وما سيترتب عليها من تغيرات جوهرية فى بنية النظام الاقتصادي العالمي واحتمالات تحول سياسات بعض الدول الشرق أوسطية للتعامل مع الصين أو البحث عن توطيد العلاقات الاقتصادية مع القوى الاقتصادية الصاعدة كالصين والهند ودول البريكس، ناهيك عن التغيرات الاقتصادية المتعلقة بالتعامل مع قضايا الطاقة والاتجاه نحو مصادر الطاقة الجديدة والمتجددة فى اطار المؤتمرات السنوية عن تغير المناخ، كما تشمل هذه المتغيرات أيضا على المتغيرات السياسية مثل زعزعة استقرار الاتحاد الأوروبي بفعل الحرب الروسية الاوكرانية وتدفق اللاجئين من أوكرانيا إلى دول الاتحاد الأوروبي عبر بولندا ورومانيا، وتزايد احتمالات التعددية القطبية وتاثيرها على امن وسلوك الشرق الاوسط والمركبات الامنية غير المرئية .

وهناك المتغيرات التكنولوجية وأهمها الثورة الصناعية الرابعة التى تعتمد على تكنولوجيا الرقمنة والذكاء الصناعي والريبوتات واستخدام المعلومات الضخمة Big data فى صياغة المحتوى الأمني للدول. وسيتناول هذا المبحث التغيرات الجيوسياسية التي حدثت في منطقة الشرق الأوسط في الفترة التى تلت عام 2010 مع التركيز على العواقب التى ترتبت على الجهات الفاعلة القائمة والفرص المتاحة للجهات الفاعلة الجديدة لتأسيس أنفسهم داخل الفضاء الجيوسياسي القائم والمتطور، خاصة وأن البيئة الاقليمية التى تمر بها منطقة الشرق الأوسط تعتبر مرحلة انتقالية واسعة النطاق ولا تزال النتيجة النهائية غير معروفة.

حيث تقوم القوى الخارجية التقليدية مثل الولايات المتحدة أو القوى الإقليمية مثل مصر بتعديل الأدوار وتغيير تركيزهم. فقد تكاثرت الجهات الفاعلة من غير الدول الرسمية– تنظيم الدولة الاسلامية فى العراق وسوريا على سبيل المثال – مما أجبر الدول القائمة على ادعاء استجابات سياسية جديدة.

وعلاوة على ذلك، ظهرت قضايا جديدة أو اكتسبت طابعاً ملحاً متجدداً، مثل الحاجة إلى التنويع الاقتصادي والقلق المتزايد بشأن تهديدات الأمن السيبراني على سبيل المثال لا الحصر، وتوسيع جدول الأعمال الأمني الشامل لدول المنطقة. في حين أن هذا الانتقال يفتح المجال أمام الجهات الفاعلة الإقليمية للعب دور مختلف .فالبيئة الناشئة الجديدة تتطلب تعديلا ومرونة أكبر مما كان يعتقد في البداية لخلق بيئة مختلفة وسائلها وربما أكثر تقلباً تحمل معها فرصاً أكبر من المخاطر خاصة بالنظر إلى حقيقة أن أي فراغات سياسية أو أمنية سيتم ملؤها بسرعة من قبل الجهات الفاعلة المستعدة لتحمل تلك المخاطر.

ويرافق المركب الأمني الإقليمي المتطور غياب الإجماع العام على ما يجب أن تبدو عليه النظم السياسية القائمة فى التعامل مع مفاهيم مثل التهديدات القائمة والناشئة، وبالنسبة لبعض هذه التهديدات، لا توجد استجابات سياسية جاهزة. ولفهم الآثار المترتبة على تطور المركب الأمنى الإقليمي في الشرق الأوسط بشكل أفضل، سيركز هذا المبحث على أربعة عوامل يمكن تحديدها على أنها حاسمة بشكل خاص من حيثفهم التحول الذي تقوم عليه البيئة الأمنية الإقليمية الحالية.

أ‌-العوامل الحاكمة للمركب الأمني الأقليمي للشرق الأوسط
تتعدد العوامل الحاكمة للمركب الأمني الاقليمي للشرق الأوسط، وأهم هذه العوامل :
-العامل الأول وهو التقلبات المحلية التي أدت إلى مزيج من الانتفاضات والثورات وحتى الحروب الأهلية التي أثرت بطريقة أو بأخرى تقريباً فى جميع الدول في الشرق الأوسط ، حيث سلسلة الاضطرابات التي اندلعت في أواخر عام 2010 . والتي اجتاحت تونس فى البداية ثم توسعت لتشمل المنطقة بأكملها انتهاء بالصراع المحلى الجاري فى السودان بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وقادت الجهات الفاعلة الإقليمية إلى الاستجابة في مجموعة متنوعة من وسائل التعامل مع هذه الاحداث.بينما اتخذت بعض الدول إجراءات فورية لمنع الانتفاضات أو الاضطرابات الداخلية، ووجدت دول أخرىأنفسها بسرعة تحت رحمة وضع لا يمكن السيطرة عليه بشكل متزايد.
-أما العامل الثاني فهو ذو طبيعة إقليمية أكثر وينطوي على دور الدول غير العربية، وخاصة إيران واسرائيل وتركيا. وكان الشاغل الرئيسي للدول العربية في منطقة الشرق الأوسط في العقد الماضي هو قضية توسع القوة الإيرانية في جميع أنحاء المنطقة على حسابهم، وخاصة من خلال استخدام التنظيمات والجهات عير الرسمية و الجهات الفاعلة والقوات بالوكالة. إن التأثير الأكبر الذي تستطيع إيران ممارسته هو النتيجة المباشرة لحقيقة أن دول القوى التقليدية مثل مصر وسوريا والعراق لم تعد في الوقت الحالي لاعبين جيواستراتيجيين فى المنطقة. بالإضافة إلى إيران ، كانت تركيا بقيادة رجب طيب أردوغان تسعى إلى الاستعداد لنشر نفوذها في منطقة الشرق الأوسط من منظور إيديولوجي وكذلك من المنظور القومي العثماني الجديد.

ومع ذلك، لم تسفر التوغلات الإيرانية والتركية عن أي شيء ولم تؤثر كثيراً فى درجة الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط. في الواقع ، فيمكن القول أن امتيازاتهم السياسية كانت لمنع المنطقة من العودة إلى الاستقرار حيث تستفيد أنقرة وطهران من درجة معينة من التقلباتفى نظام الدولة العربية. وبالإضافة إلى المنافسات العرقية العربية مقابل الفارسية والعربية مقابل التركية ، فقد تميزت المنطقة أيضا بزيادة الطائفية على المستوى السني مقابل مستوى الشيعة الذي يميل إلى حصر إطار المنطقة المنافسة في إطار “معنا أو ضدنا”. ويجب أيضا النظر إلى دور إسرائيل في هذا السياق على أنه بسبب تزايد المخاوف بشأن الطموحات التركية والإيرانية، كان هناك تقارب بين الدول العربية مع إسرائيل على أهداف مشتركة. فيما يستمر تعنت الحكومة الإسرائيلية بشأن التعامل مع القضية الفلسطينية بما يمنع هذا التقارب من الانتقال إلى آلية تحالف جديدة،حيث ترتبط نظرة واتجاه السياسة الإسرائيلية بطبيعة الحال باعتبارات تتعلق بالمنطقة الأوسع والبعد الدولي.
-والعامل الثالث يكمن على المستوى الدولي وينطوي على الدور المتغير للولايات المتحدة الامريكية في المنطقة، وعودة منافسة القوى العظمى مع عودة روسيا إلى الظهور من خلال تدخلها في سوريا واخيرا فى أوكرانيا ، حيث بدأت الولايات المتحدة الامريكية انسحاباً أكثر انتشاراً نظراً للإرهاق المتزايد من الحروب فى العراق وافغانستان وتفضيل العودة إلى الوطن وتحول الأولويات إلى آسيا حيث المصالح الاستراتيجية الأساسية للولايات المتحدة تكون أكبر. والنتيجة المباشرة لهذا التحول هي أن الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط قد ركزت بشكل أكبر علىدور القوى الإقليمية التي تقف سياستها الخارجية والأمنية الآن في المقدمة أكثر من أي وقت مضى في العقود الأخيرة.وكان التأثير الأكثر إلحاحا هو زيادة التوترات الإقليمية مع وجود احتمال إضافي بأن تتصاعد هذه التوترات إلى مواجهات سواء في شكل مباشر أو من خلال القوات بالوكالة ، مع تلاشي التصميم السابق للولايات المتحدة الأمريكية على منع مثل هذه التصعيدات. وبأخذ مجموعة العوامل المحلية والإقليمية المذكورة سابقا مجتمعة ، يمكن تقديم حجة قوية لحقيقة أن تشهد مجموعات القوى في منطقة الشرق الأوسط بالفعل تحولاً جذريا مع تراجع الدول الأمريكى والدور المتنامي لروسيا مدفوعة بالرغبة فى عدم تهميشها عندما يتعلق الأمربلعبة القوة الشاملة للعلاقات الدولية في الشرق الأوسط. وقد خلق هذا التحول تعددية أقطاب مما افرزفرصا إضافية أكثر وتحديات للدول الإقليمية التي تجد نفسهامضطرة للانخراط في جهود توازن القوى لتوسيع استقلاليتهم الاستراتيجية.
-والعامل الرابع هو الدور المستقبلى للصين، فعندما يتعلق الأمر بالتدخل الخارجي في الشرق الأوسط لا يمكن اغفال الدور المستقبلي للصين بالنظر إلى اعتمادها الاقتصادي والاستراتيجي الكبير على موارد النفط الخليجية وتصميم الصين على رؤية حماية المصالح العالمية بشكل متزايد وتطويرها من خلال سياسة أمنية أكثر استباقية. ومن المؤكد أن الصين تستعد لتكون أكثر نفوذا في المستقبل القريب نظرا للمخاطر العالية التي تنطوي عليها تهميشها من المشاركة فى صياغة شكل التعددية القطبية .

وتجتمع الأربعة عوامل المذكورة أعلاه – على المستويات المحلية والإقليمية والدولية – لتقديم صورة مختلفة لمنطقة الشرق الأوسط عما كانت عليه خلال الحرب الباردة أو في السنوات السابقة. فالتحول الشامل الذي يحدث، بدوره، له تأثير مباشر من حيث كيفية تصور وتنفيذ استراتيجيات الاستقرار الأمنية على المدى القصير، والتنمية المتوسطة إلى الطويلة الأجل من قبل الجهات الفاعلة في نفس السياق المحلي والإقليمي والدولي. إن عدم اليقين Uncertainty بشأن الأدوار التقليدية للجهات الفاعلة الخارجية مثل الولايات المتحدة أو الدول الأوروبية الفردية أو روسيا أو الصين يجبر الدول الإقليمية على الارتقاء إلى مستوى ملء الفراغ مع استجاباتهم بالنظر إلى كل من مصالحهم الوطنية الخاصة والخوف من أن التقاعس عن العمل سوف يؤدى إلى أجندات متنافسة تهيمن على الخطاب المستقبلي على هذا النحو .

وبشكل عام، يمكن القول أن منطقة الشرق الأوسط تشهد مجموعة متعددة من التحولات تؤدى إلى تورطها فى فترة انتقالية طويلة نظراً لأن أسس الهيكل السياسى بالمنطقة فى حالة تغير مستمر. فهناك عملية إعادة تنظيم أساسية للسلطة في المنطقة بطريقة لا نعرف فى الواقع ما اذا كانت ستؤدي الى الاستقرار ام الصراع . فهناك حاجة ملحة لإيجاد آليات جديدة للنظام من شأنها على الأقل منع المزيد من الاضطرابات والعنف على نطاق واسع والسماح بمساحة سياسية يتم فيها ظهور تتنظيمات جديدة فى اطار من التعددية السياسية ، ويمكن تطوير المبدأ والاتفاق عليه في نهاية المطاف. وبالنظر إلى النظام الأمني الإقليمي المتغير، من الواضح أن بعض الجهات الفاعلةالإقليمية، بقيادة بعض دول مجلس التعاون الخليجيوعلى رأسها الأمارات العربية المتحدة تحاول إعادة تأسيسها لتحقيق درجة من الاستقرار في تلك المناطق التي اتسمت بانعدام القانون والفوضى واضمحلال الدولة في السنوات الأخيرة.

ب‌-الصبغة المحلية للسياسات الحكومية بمنطقة الشرق الأوسط
أكدت السرعة التي انتشرت بها ثورات الانتفاضات العربية في جميع أنحاء المنطقة ضعف وهشاشة معظم الأنظمة الحاكمة القائمة في الشرق الأوسط. ومن المؤكد أنه لا توجد دولة فى الشرق الأوسط لم تتأثر بالتقلبات المحلية المتزايدة في العقد الماضي. بينما أدت الاحتجاجات والثورات في بعض البلدان إلى تغييرات فعلية في الحكومة (تونس ومصر وليبيا واليمن) ، وفي بلدان أخري اضطرت الحكومات إلى الاستجابة لقضايا الخلاف المتصاعدة (البحرين وعمان والأردن وإيران والمغرب، على سبيل المثال). حتى في البلدان التي لم تشهد أي اندلاع واضح للاضطرابات (في المقام الأول الكويت وقطر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة)، كان هناك اعتراف فوري بضرورة الإصلاح ولا سيما على الصعيد الاقتصادي بمزيد من السرعة. وفى أعقاب الانتفاضات العربية، حدث تحول في الخطاب المحلي بعيدا عن تهديد البيئة الخارجية للأمن الداخلي ونحو تركيز أكبر على القضايا المحلية والإقليمية .

فمن ناحية، كانت الاهتمامات السائدة لدول المنطقة هي الحفاظ على الهياكل الاجتماعية والسياسية القائمة وكذلك حماية العقد الاجتماعي القائم بين النخبة الحاكمة والشعوب بشكل عام. ومن ناحية أخرى، كان هناك أيضا اعتراف متزايد بأن الإصلاح يجب أن يكون جزءاً أساسياً من عملية الحفاظ على الوضع الراهن، وكان هذا بسبب الانتقال المستمر الذي يحدث على المستوى الاجتماعي الأوسع حيث جيل أصغر سناً مدعوم من قبل أفضل فرص التعليم، والأهم من ذلك زيادة وسائل الاتصال وثورة المعلومات والتكنولوجيا، بحيث أن هذه الأجيال لم تعد تشعر بأنها مرتبطة بسابق الاتفاقات والتقاليد غير المعلنة التي كانت موجودة في الترتيبات الحاكمة مما أدى بعد ذلك إلى أن بدأت الأجيال الصاعدة بالضغط من أجل إعادة كتابة العقد الاجتماعي القائم مع دفعة حازمة ناشئة من الأسفل، وأصبح من الواضح للعديد من السلطات الحاكمة أنه من أجل الحفاظ على مستوى معين من الطائفية لابد من الموافقة على السلطة القائمة وإضفاء الشرعية عليها مع معالجة القضايا الداخلية وجها لوجه.

وفي سياق التنافس السياسي الداخلي المتزايد، كانت بعض الدول في الشرق الأوسط قادرة على الاستجابة بشكل أفضل من غيرها. فخارج البحرين، صمدت دول مجلس التعاون الخليجي إلى حد كبير أمام الانتفاضات العربية بسبب درجة الشرعية العالية للأنظمة الحاكمة وقدرتها على الاستجابة السريعة لارتفاع مستويات السخط، ولأن هذه الدول استخدمت الموارد المالية الكبيرة المتاحة لها من أجل الاستجابة لمعالجة بعض القضايا الداخلية مما يزيد من تأكيد شرعيتهم مثل الاستجابة بمجموعة متنوعة من جهود الإصلاح التي يتم تغليفها في الغالب في ما يسمى ببرامج الرؤية مثل رؤية السعودية 2030 أو رؤية الإمارات 2021 جنباً إلى جنب مع الزخم للتغيير والإصلاح لأن دول مجلس التعاون الخليجي شهدت ظهور جيل جديد من الحكام ،تميل التوقعات إلى أن تكون تطلعية ووقائية.

إن مقدار التغيير الذي يمكن أن تستوعبه مجتمعات دول مجلس التعاون الخليجى في فترة زمنية قصيرة قبل التغيير نفسه يصبح عاملاً مزعزعاً للاستقرار.وعلى النقيض من دول مجلس التعاون الخليجي، شهد الشرق الأوسط الأوسع أيضا ظهور ما يسمى ب “الفوضى” حيث تتميز الدول بانهيار كامل للنظام الداخلي وزيادة التشرذم الداخلي; فعلى سبيل المثال فى مصر,سوريا وليبيا واليمن والسودانحيث ظهرت الفراغات التي ملأتها مختلف الجهات الفاعلة غير الحكومية في كثير من الأحيان بدعم من جهات إقليمية أو خارجية أخرى.

وفي المقابل ، في معظم أنحاء المنطقة ، لا تزال الاضطرابات السياسية مستمرة سعياً وراء الانتقال الأولي للدول التى خرجت من الانتفاضات العربية وفشلت في المضي قدما بطريقة خطية ومستقرة ومتوقعة. ونتيجة لذلك، ستظل البلدان المذكورة أعلاه تستهلكها الصراعات الداخلية لسنوات عديدة قادمة ،بمعنى أنهم لن يكونوا قادرين أيضا على إبراز قوة كافية خارج أراضيهم. فالنظام الجديد المتولد هو فى الأساس نظام من الفوضى ولذلك نمت الحاجة إلى سياسات جديدة ونهج متعدد الجوانب ،مدعوما بإدراك أن منع المزيد من الفوضى الداخلية يرتبط ارتباطا وثيقا بسياسات استقرار أفضل داخل المنطقة الكبرى، وحاولت السياسة الخارجية لدول مجلس التعاون الخليجي التصميم على الانخراط بنشاط في الشؤون الإقليمية من أجل أن تكون قادرة على تشكيل نتائج معينة، فالقلق من عدم الاستقرار الداخلي، على سبيل المثال، أدى بشكل مباشر إلى الانقسام العميق بين الشرق الإقليمي.

وقد ساهمت الجهات الفاعلة الشرقية فى محاولة تصعيد ما يسمي بالإسلام السياسي كمبدأ منظم لسياسة المستقبل بالمنطقة. فبالنسبة للإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، على سبيل المثال، ينظر إلى أي شكل من أشكال الإسلام المتشدد على أنه وجودي التهديد، وسيؤدي فرضه إلى انعدام الأمن الدائم في المنطقة المضطربة ككل، وبات التطرف الراديكالي محركاً رئيسياً للسياسات داخل الدول في الشرق الأوسط وكذلك المحرك الرئيسي للسياسة الخارجية الإقليمية مع مجموعات جديدة من الدول تتشكل حول هذا الانقسام المتزايد ليس على عكس “الحرب الباردة العربية” التي أعقبت صعود الناصرية، ولكن مع اصطفاف مختلف من اللاعبين. وعلى الرغم من المحاذير العادية المحيطة بالأوضاع الوطنية الفريدة، فقد كشفت هذه القضية بالتأكيد الشقوق التي يجب حلها إذا كان لنظام إقليمي مستقر أن يعود إلى الظهور.

وخلاصة القول أن التقلبات الجديدة التي تمثلت في اندلاع الانتفاضات العربية جلبت الخطر الأقرب إلى الوطن في شكل تهديدات متنوعة لم تعد تقتصر على التفاعلات بين الدول فحسب. وبالنسبة لمعظم دول المنطقة، يستمر التقلب في الوقت الذي تكافح فيه الحكومات لإعادة تأسيس نفسها وشرعيتها. وعلى هذا النحو، فإن احتمال اندلاع ثورات جديدة لا يزال حقيقة دائمة الوجود. ويرجع هذا إلى حقيقة أن العديد من القضايا التي كان ينظر إليها على أنها أسباب الانتفاضات العربية – بدءاً من القضايا الاجتماعية والاقتصادية السائدة وعدم القدرة على تعزيز خطط التنمية المستدامة ومعالجة قضايا حول حقوق الانسان وكرامة المواطن فضلاً عن الفشل في بناء هويات وطنية متماسكة – لا تزال دون حل بل ازدادت كثافة اليوم عما كانت عليه من قبل ، ونتيجة لذلك، لاتزال الأنظمة العربية تواجه حالة انعدام الأمن العميق أي أن الانتفاضات العربية التى سعت لاقامة مجتمعات ديمقراطية حرة لم تنتج سوى تقويض السلطة المركزية مع خلق حالة من الفوضى وظهور الحركات والتنظيمات غير الرسمية فى المشهد.

ومع ذلك، فإن التطورات في دول مجلس التعاون الخليجي قد أكدت حقيقة أن النقاش الحالي يدور أيضاً حول النشاط الفعال للمواطنة التي يساهم من خلالها الشعوب فى تنمية مجتمعاتهم بالمعنى الكامل. هذا لايعني أن المواطنين مستعدون بالضرورة لتحدي وقلب نظم الحكم، بل أن منهج الضرائب مقابل ضمان أمن المواطنين أصبح فى خطر متزايد، وقد يكون الحل هو عقد اجتماعي جديد يقبله الجميع، ومن ناحية أخرى، فإن المسار قصير المدى للاستقرار المختار بدلاً من استيعاب التغيير الاجتماعي يؤكد الضغط المستمر الحالي على الحكم الشرعي.

ومع تزايد تمكين الشباب اقتصادياً واجتماعياً، أصبحت الحكومات مضطرة لفتح المساحات تدريجياً التي يمكن للجيل الجديد الناشئ أن يضع فيها الأدوات الت يتم منحها من خلال تحسين فرص الحصول على التعليم، وتوثيق الروابط التي أقيمت من خلال العولمة للاستخدام الأمثل للموارد والطاقات الاقتصادية. ومما يحسب لحكومات دول مجلس التعاون الخليجي أنها ترى الشباب الناشئ كمورد ضخم يجب أن يكون كذلك، وتسعى لإدماج كامل الجيل فى العملية السياسية والاقتصادية من خلال منح أولوية فى العمل والمشاركة كنوع من الجهود الرامية إلى ضمان استمرار الاستقرار والقدرة على البقاء.

ج‌- الدور الأقليمي والدولي فى تطورات العقد الماضي
-الدور الايراني والتركي
أدت الانتفاضات والحروب الأهلية بالمنطقة خلال العقد الماضي إلى خلق فراغات تم ملؤها من قبل كل من الجهات الفاعلة بالاقليم وخارجه. فعلى المستوى الإقليمي، فإن ما شهدته منطقة الشرق الأوسط نتيجة لذلك هو ثلاثية جديدة للتنافس بين الدول العربية وتركيا وإيران على السلطة والنفوذ. إلى حد ما ، يمكن أن يصنف هذا أيضا على أنها منافسة بين القوى التقليدية وقوى الوضع الراهن لتحديد نوع النظام الإقليمي الذي يجب أن يظهر. فقد أدي الغزو الذي قادته الولايات المتحدة لأفغانستان في عام 2001 والعراق في عام 2003 إلى أن تخرج إيران من عزلتها وتقترح نفسها مرة أخرى كنموذج بديل لبقية الدول. ونتيجة لذلك، وبين عشية وضحاها تقريبا، تمت ازاحة اثنان من السلطة ممن يشكلا العدوين الرئيسيين للجمهورية الإسلامية بإيران وهما : طالبان في أفغانستان ونظام صدام حسين في العراق،. بينما استغلت إيران وعززت نفوذها فى الأجزاء الغربية من أفغانستان، وكان وصولها إلى العراق أكثر اتساعاً. وبرعاية إيرانية سرعان ما بدأت الجماعات المدعومة من ايران في الهيمنة على المشهد السياسي الداخلي في العراق بينما تكبدت القوات الأمريكية التى تم جرها بشكل متزايد إلى حرب استنزاف كلفت الولايات المتحدة في النهاية أكثر من 4000 شخص وأكثر من تريليون دولار من الخسائر الاقتصادية.

وفي عام 2011، أعطت الاحتجاجات التي اندلعت في سوريا إيران فرصة إضافية لمساعدة حليفها نظام بشار الأسد من خلال الدعم السياسي والعسكري، وكان النظام قادرا على الانتصار- أيضا بسبب التدخل الروسي – ورأت إيران أن موقفها تعزز أكثر داخل سوريا وفي المنطقة. وكان انتشار النفوذ الإيراني في الشؤون العربية ينظر له على أنه ضار بالاستقرار العام في الشرق الأوسط كما هو الحال خارج الحالة السورية لان ايران تميل إلى دعم الجهات الفاعلة غير الحكومية مثل حزب الله في لبنان، والميليشيات مثل الحشد الشعبي في العراق، والحوثيون في اليمن، الذين يقوضون بنشاط استقرار الدولة المعينة في محاولة لتعزيز التأثير الايراني.

وفي لبنان، أخذ حزب الله الدولة اللبنانية رهينة ومنع انتخاب الرئيس لأكثر من عامين من مايو 2014 حتى أكتوبر 2016. مثل هذه الأمثلة ، جنبا إلى جنب مع البيانات التي أكدت عزم إيران على مواصلة تصدير الثورة الإيرانية إلى الجوار وتصريحات أخرى لمسؤولين إيرانيين بأن المزيد من الدول العربية ستقع قريبا تحت السيطرة الإيرانية، تسببت فيقلق عميق في معظم أنحاء العالم العربي. وسرعان ما تحركت بعض الدول العربية ، بقيادة السعودية والإمارات العربية المتحدة لاثبات أن هناك حاجة إلى تحول أكثر جوهرية في السياسة للحد من إيران والتصدي لها. وكان التقييم العام هو أن استمرار نهج الانتظار والترقب سيكون خطيرا للغاية لأن الأمن الداخلي للفرد والأمن الإقليمي ايضا سيتعرض للخطر.

ومن وجهة نظر إيران، ينظر إلى المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة على أنهما تسعيان في المقام الأول لخلق بيئة معادية لإيران وخلق تحالف بدعم من الإدارة الأمريكية ( إدارة ترامب آنذاك) وإسرائيل يبالغ في تصوير التهديد النابع من طهران على الاستقرار في الشرق الأوسط. وكان رد ايران هو تنمية شبكة من الحلفاء الإقليميين من الدول وغير الدول الذين يمكن لطهران نشرهم للدفاع عن مصالحها. البعض يصف ذلك بأنه استراتيجية دفاعية متقدمة.ومن أجل مواجهة التطويق المتصور، ركزت إيران على القدرات العسكرية غير المتماثلة وزيادة ما يسمى بالعمق الاستراتيجي للجمهورية الإسلامية.

وفي الوقت نفسه، ومع توطيد السلطة من قبل رجب طيب أردوغان في تركيا على مدى العقد الماضي،تطمح تركيا إلى أن تكون “الزعيم المنطقي الوحيد” للمسلمين العالميين والقوة المهيمنة في الشرقفى ضوء إعلان الإدارة الأمريكية (إدارة ترامب في يناير 2019 ) أن الولايات المتحدة سوف تسحب قواتها من سـوريا.وعلى حين ينظر إلى إيران في كثير من الأحيان على أنها مفرطة في التوسع ، ينظر لتركيا على انهاعضو في حلف شمال الأطلسي وتلعب دورا مباشرا في بعض الشؤون العربية وخاصة فيما يتعلق بسوريا والعراق ، ولكنها فى الوقت نفسه تقمع القومية الكردية المتصاعدة ولم تتمكن من تشكيل جبهة موحدة بين الجماعات الكردية من شأنها أن تعزز قضيتها من أجل الاستقلال والانفصال. ومن هنا كان لدى تركيا مصالح مماثلة لتلك التي لدى إيران وغالبية الدول العربية. لكن وفيما يتعلق بالأمن الإقليمي،لا ينظر إلى تركيا بالضرورة على أنها قوة استقرار من قبل معظم العالم العربي رغم ترويجها كممثل للإسلام السياسي وكقوة منظمة انتقلت إلى نظام حكم رئاسي مدني يميل في عهد الرئيس أردوغان إلى الإيحاء بأن أنقرة مهتمة أكثر برؤية إمتداد نفوذها الخاص بدلا من تعزيز الأمن الإقليمي. وفي هذا السياق، برزت تركيا كمنافس يسعى للهيمنة الإقليمية بدلاً من شريك محتمل يمكن للدول العربية أن تتنافس معه للعمل على إعادة إرساء الأمن في الشرق الأوسط واحتواء الطموحات الإيرانية. وفى ظل عدم وجود نظام إقليمي لذلك، تميل الآلية التلقائية للوضع الحالى إلى دفع تركيا إلى الأمام لمحاولة تحقيق طموحاتها الاستراتيجية الخاصة على حساب الآخرين في الشرق الأوسط الكبير.

إن ما حدث على المستوى الإقليمي في العقد الماضي هو تباين متزايد بين التفتت المتزامن والترابط بين النظام الإقليمي. وبينما تبقى الحدود الإقليمية أمنة إلى حد كبي، شهدت السيادة الوطنية كمفهوم تقلص مساحة المناورة الخاصة بها، إن ما يحدث على أرض الواقع في جزء واحد من الشرق الأوسط ينظر إليه على أنه يؤثر على التصورات الأمنية للجميع ويجب أيضا النظر إلى الجهات الفاعلة الإقليمية فى اطار من وجود قوى الفوضى والاعتماد المتبادل باعتبارها تسير جنبا إلى جنب. وعلاوة على ذلك ، أصبحت المساحات الاستراتيجية التي تم إنشاؤها والتي نتجت عن الاضطرابات المتزايدة فى المناطق التي تجري فيها متسعة ، وخلفت منافسة متزايدة بين مختلف القوى الإقليمية. وفي هذا السياق، أصبحت الصورة الأمنية الإقليمية أكثر تعقيدا من أي وقت مضى.

-الدور المتغير للولايات المتحدة
لعبت الولايات المتحدة الدور المحوري كلاعب خارجي في الشرق الأوسط على وجه الخصوص في أعقاب نهاية الحرب الباردة وعملية عاصفة الصحراء التي قادتها الولايات المتحدة والتي طردت العراق من الكويت في عام 1990، واحتلت الولايات المتحدة موقع الهيمنة في المنطقة. وبينما ظلت ديناميكيات القوة الإقليمية مستقرة في العقدين التاليين لنهاية الحرب الباردة، غيرت التطورات الأخيرة تلك الديناميكيات.إن تغيير دور الولايات المتحدة كضامن أمني أساسي لحلفاء الشرق الأوسط قد نتج عن ثلاثة عوامل وهي – أن هناك إرهاق واسع النطاق من الحرب بعد فترة طويلة في أفغانستان والعراق بعد 11 سبتمبر 2001. وكان هناك ضغوطا من الداخل لان الشعب الأمريكي ببساطة غير مستعد لتخصيص كميات كبيرة من الموارد والضرائب التى يدفعها لتمويل حروب خارجية لم ير لها فوائد جوهرية تعود عليه بالنفع.

وتجري الولايات المتحدة الامريكية عملية إعادة توجيه نحو مجالات أخرى من المشاركة مما يشير إلى أن الشرق الأوسط يفقد ببطء تصنيفه كأمن قومى حيوي من منظور الادارة الامريكية ، هذا الأمن الحيوي الذي كان يحتفظ به ذات يوم في إطار التفكير الاستراتيجي الأمريكي. وإلى جانب تطوير النفط الصخري وزيادة استقلال موارد الطاقة في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن التركيزعلى حماية التدفق الحر للطاقة من منطقة الخليج لم يعد يعتبر مصلحة استراتيجية حيوية من قبل المخططين في واشنطن. كما أن المنافسة القوية مع روسيا والصين في المسرح الآسيوي تم إعطاؤها درجات أعلى من الاهتمام والأولوية ، فمنطقة الشرق الأوسط لازالت مهمة بالنسبة للادارة الامريكية، ولكنها ليست ذات أهمية حاسمة بالنسبة لها كما كان قبل عشر أو خمس عشرة أو عشرين سنة مضت، خاصة مع التوجه الحالي نحو الانتقال من الحروب التقليدية واسعة النطاق إلى شكل هجين أكثر تنوعا ومدفوعا بتكنولوجيا الحروب الحديثة التى لا تستلزم التواجد العسكري على الأرض فعلياً، هذا التوجه كان مدفوعا بحالة السخط من الحروب السابقة حيث أن ارتفاع عدد القتلى له تأثير فوري على المشاعر السياسية الداخلية. وتسمح أشكال الحرب الحديثة الآن بمسافة أكبر من ساحة المعركة الفعلية بالإضافة إلى التركيز على احتواء ساحة المعركة بدلاً من وجود قوات فعلية على الأرض. وهكذا، في حين أن مصلحة الأمن القومي الحيوية للولايات المتحدة الأمريكية هي القضاء على الإرهاب والوقاية منه لمنع هجوم آخر على الأراضي الأمريكية، يرى المخططون العسكريون أن مثل هذا الهدف يتحقق إلى حد كبيرمن خلال هجمات الطائرات بدون طيار على الجماعات المسلحة في الخارج إلى جانب تكنولوجيا المراقبة والإجراءات التي تحمي حدود الولايات المتحدة من الهجرة وتمنع التسلل.

ومع ذلك ، من حيث التطورات في الشرق الأوسط ، لم تعد هذه القدرات مناسبة في أماكن مثل سوريا أو ليبيا أو اليمن. فبدلا من ذلك ، ما أصبح واضحا خلال كل من إدارة أوباما وإدارة ترامب الأمريكيتين هو زيادة التأكيد من الجانب الأمريكي على أنه في مثل هذه الحالات يجب أن يكون للحلفاء الإقليميين قواتهم على الأرض مع لعب الولايات المتحدة مجرد دور داعم. وتماشيا مع هذا الرأي الذي فضله الرئيس ترامب، كان التفكير فى إنشاء تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي أو مساهمة المملكة العربية السعودية بقيمة 4 مليارات دولار فيتحقيق الاستقرار في سوريا. ولكن الإجماع العام في واشنطن هو أن حلفاء أمريكا قد فعلوا ذلك على الأقل حتى في الآونة الأخيرة بعدما اعتمدت دول الشرق الأوسط كثيرا على الولايات المتحدة لحل المشاكل الإقليمية فى السابق، وتحتاج الولايات المتحدة الآن إلى تقديم مساهمة أكبر من هذه الدول فى حل المشاكل المطروحة.

ومع كون أولوية القضايا الداخلية واتخاذ قرارات السياسة الخارجية على أساس محلى ، هناك مجال محدود بشكل متزايد للمناورة فيما يتعلق بالإدارة الأمريكية.فقد أجبرت الانتفاضات العربـية الإدارة الأمريكية ( إدارة أوباما آنذاك) على مواجهة معضلة مألوفة في السياسة الأمريكية ولكنها واحدة من حيث حجم ونطاق وتعقيد لم يسبق له مثيل: تحديد ما إذا كان ينبغي تقديم الدعم في كل حالة وكيفية ذلك، وهل التطلعات الشعبية العربية تتفق مع حماية المصالح الاستراتيجية الأمريكية في الوقت نفسه. وبشكل عام ، تبنى الرئيس الأمريكي السابق أوباما نهجا تدريجيا للتغيير الديمقراطي، تميز بالتركيز على العالمية، والحقوق، وسيادة القانون، والإصلاح المؤسسي، والتنمية الاقتصادية، والتخفيف من حدة الفقر. كان هذا بسبب آراء أوباما حول الدور الأمريكي في الشؤون العالمية وتفكيره في حدود القوة الأمريكية و تجلت تأثير سياسات أوباما في وقت لاحق في تفضيل الحلول الحاسمة فى المنطقة والعمل المتعدد الأطراف بما في ذلك التعاون في مكافحة الإرهاب، واتفاقيات استغلال النفط، ومكافحة إيران، وضمان الأمن القومي لإسرائيل.

ومع تلاشي عصر التفوق الأمريكي الذي لا جدال فيه إلى حد كبير، تم إلقاء النظام الدولي في حالة من الاضطراب. ويميل المزيد من القادة في كثير من الأحيان إلى اختبار الحدود، والتزاحم على السلطة، والسعي إلى تعزيز نفوذهم ، أو التقليل من منافسيهم – من خلال التدخل في الصراعات الخارجية. ومع تغير الدور الأمريكي في الشرق الأوسط ، فإن دول الخليج العربى اصبحت تواجه بعض المعضلات تتعلق بالأمن القومى لها، حيث لا زالت هذه الدول تنظر إلى الولايات المتحدة باعتبارها القوة الوحيدة القادرة عسكريا على حماية سيادتها الإقليمية، وهو ما يطرح نقاشا حول ما اذا كانت الولايات المتحدة لا تزال مستعدة وقادرة على تزويد حلفائها الخليجيين الإقليميين على وجه الخصوص بالقدرات التى تمكنها من حماية امنها الاقليمى بنفسها وهى قدرات تفتقر اليها دول الخليج العربى ولكنها ضرورية لأمنها القومى وبقاءها.

إن الأنظمة العربية لم تعد ترى الولايات المتحدة كضامن موثوق لبقاء النظام أومصالح السياسة الخارجية لأن الولايات المتحدة ببساطة لم تعد لديها القوة أو المكانة لفرض نظام إقليمي بشروطه الخاصة، ومن هنا كانت حاجة الدول العربية نفسها إلى الاستثمار في قدراتها نتيجة لذلك وتقاسم الأعباء، ولذلك فإن حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط إما قاموا ببناء أو يقومون بتجميع مستوى من القدرات التى تمكنهم من حماية أمنهم الأقليمي، وهذا يسمح لهم بالتصرف بطريقة أكثر استقلالية، وعدم الاعتماد على الولايات المتحدة الأمريكية بقدر ما كان عليه الحال في الماضي. ومن الجوانب الاخرى الجديرة بالرصد أن الحقبة السابقة من الأحادية القطبية الأمريكية فشلت في تقديم أي بديل لإقامة نظام اقليمي مما اضطر حلفاء الولايات المتحدة الإقليميون آنذاك إلى إعادة النظر في مجمل مصالحهم الإقليمية والدولية.وبالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي، بيد أن التطورات الأخيرة أبرزت الحاجة الماسة إلى بناء شراكات مختلفة من أجل صون الأمن الإقليمي بينما يعني هذا من الناحية الإقليمية إقامة توازن جديد في العلاقات مع قوى مثل إيران وتركيا وإسرائيل، وعلى المستوى الدولي، دول مثل روسيا والصين كما بدأت الهند تلعب دورا أكثر مركزية في المداولات السياسية.

وكانت النتيجة المباشرة الأخرى لإعادة توجيه السياسة الأمريكية بعيدا عن منطقة الشرق الأوسط هي عودة ظهور روسيا كلاعب قوي على رقعة الشطرنج في الشرق الأوسط، أولا في سوريا حيث تمكنت روسيا من إعادة تأكيد نفسها في الشرق الأوسط دون اعتراض أمريكي كبير. بينما استمرت الولايات المتحدة في فرض نفسها كلاعب على الأرض ، فقد فعلت ذلك بشكل حصري تقريبا تحت فرضية محاربة الإسلاميين دولة (داعش) وليس من حيث توجيه التطورات الإقليمية نحو ظهور إقليمي جديد يعتمد على مركب أمنى مختلف. وفي هذا السياق، جاء قرار الولايات المتحدة مطلع يناير 2019 بسحب قواتها من سوريا مفيدا لروسيا حيث تركت روسيا باعتبارها القوة الوحيدة فى سوريا التى يمكن أن تكبح جماح سوريا وكذلك تخدمها، وقد أجبر القرار الأكراد السوريين على السعي مرة أخرى إلى التحالف مع نظام الأسد بسبب المخاوف من غزو تركي محتمل ضدهم كصحن ضد أنقرة. ومع توقيع إعلان الشراكة الاستراتيجية بين الإمارات وروسيا في يونيو 2018 تأكد أن روسياعامل استراتيجي في المنطقة، فى حين عززت كل من الأردن والمملكة العربية السعودية وعمان علاقاتها الثنائية مع بكين. وتسعى الصين- من خلال مبادرة الحزام والطريق – إلى إنشاء موطئ قدم ثابت يغطي مناطق الخليج وبحر العرب والقرن الأفريقي والبحر الميت . ومن الركائز التى تؤثر على المركب الأمني فى الشرق الأوسط هو المشاركة الخارجية المتغيرة فى الشئون الاستراتيجية للشرق الأوسط ، حيث يقترب عصر الأحادية القطبية الأمريكية من نهايته ويحل محله عودة إلى سياسة القوى العظمي والمزيد من التعددية القطبية. ويحاول حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط التكيف مع الحقائق الجديدة من خلالتنويع علاقاتهم الخارجية ووضع أنفسهم ضمن الإطار الناشئ.في حين أن البيئة الجديدة تجعل البحث عن آليات جديدة للنظام الإقليمي أكثر تعقيدا ، فإنها أيضا تفتح المجال أمام الجهات الفاعلة الإقليمية لرؤية امتيازاتها السياسية الخاصة التي يتم تضمينها في النقاش العام.وعلى هذا النحو، فإن الدافع لمزيد من النشاط الإقليمي عندما يتعلق الأمر بتطورات الشرق الأوسط سيظل عنصر أساسي في التحالفات المستقبلية.

وفى الختام ، يتضح أن البيئة الأمنية الإقليمية في الشرق الأوسط تمر بمرحلة انتقالية بسبب بعض الفراغ الناجم عن تراجع سيطرة الدولة والنظام الدولي متعدد الأقطاب، والتى تم ملؤها من قبل الجهات الفاعلة العنيفة غير الحكومية التي تعمل في مساحة مختلفة. ومع ذلك ، فإن التحول يفتح أيضا مساحة للجهات الفاعلة الإقليمية التي تتمتع بقيادة حازمة وكذلك قدرات مؤسسية يمكن أن يكون لها تأثير على إتجاه الانتقال الذي يحدث.

لا شك أن المشهد الإقليمي المتغير يحمل في طياته كلا من الفرص والمخاطر. إن الجمع بين انهيار التماسك الاقليمى بفعل النزاعات والصراعات المتكررة، وإعادة توجيه السياسة الخارجية للولايات المتحدة بعيدا عن منطقة الشرق الأوسط يمكن أنتصنف على أنها تغييرات عاصفة. فمن ناحية، يزيل العقبات التي تحول دون التكامل الإقليمي أى وجود الولايات المتحدة الامريكية فى المشهد ، من ناحية أخرى ، يمنع التكامل بسبب الافتقار المتزايد إلى توافق الآراء السائد حولالأتجاه المستقبلي للشرق الأوسط ككل. ويؤدي إشراك عدد من العوامل التقليدية وكذلك الناشئة حديثا إلى تعقيدات جديدة. و قد تكون دول مجلس التعاون الخليجي في وضع فريد لتحدد بنفسها إتجاه التحولات والنتائج المستقبلية خاصة وأن الانتفاضات العربية كان لها تأثير عميق على تطوراتها الداخلية، وبرزت دول مجلس التعاون الخليجي على أنها فعالة ومستقرة ويمكن أن تستجيب للتحديات التي تواجههاعلى المستوى الإقليمي حيث بدأت في اتخاذ مبادرات على العديد من الجبهات في سياق تعزيز نموذج أمني جديد ،إذ تتخذ من شبه الجزيرة العربية ككل نقطة انطلاق لها عند الإشارة إلى الأمن الإقليمي ، وعلى الصعيد الدولي، تقيم دول مجلس التعاون الخليجي شراكات جديدة تمكنها من توسيع خياراتها الاستراتيجية بينما لا يزال هناك تأكيد على أهمية الولايات المتحدة والدول الأوروبية الرئيسية لتحقيق الاستقرار داخل منطقة الشرق الأوسط.

وفي إطار المعايير المتغيرة، تركز بعض دول مجلس التعاون الخليجي بشكل متزايد على استراتيجية تحقيق الاستقرار في سياق إقليمي والنظر في خيارات لإطار إقليمي يمكن الجهات الفاعلة الدولية أن تجتمع معا لتحقيق بيئة أكثر استقرارا. ويجب أن تشمل المكونات الرئيسية لهذه الاستراتيجية على متابعة المجالات التي لا يزال فيها عدم الاستقرار والتقلب مرتفعين لضمان تقديم الخدمات العامةوذلك للحفاظ على الدعم العام ؛ وتحقيق الاستقرار في الاقتصاد ليس كوسيلة لتقديم السلع والخدمات فحسب بل أيضا لتوفير أساس للاستقرار على المدى المتوسط إلى الطويل ؛ وأخيرا ، اقامة الأمن بحيث يمكن متابعة تنفيذ تقديم الخدمات العامة والاستقرار الاقتصادي.

وهناك وعي بأن تدابير تحقيق الاستقرار يجب أن تحقق تقدما في جميع المجالات . وبما أن الدولة ضرورية لتوفير الأمن بدرجة عالية يعتبر ثقة السكان في الدولة عنصر ضروري للتدابير الأمنية ذات الصلة لتكون فعالة التنفيذ. وترتكز هذه الثقة على توفير السلع والخدمات العامة التي تعمل بدورها بكفاءة فى اقتصاد جيد التنظيم وفعال. و يتركز أحد الجوانب الرئيسية للنهج على المستوى الإقليمي على تقديم المساعدة الإنسانية والمعونة الإنمائية كشرط أساسي لعملية تنفيذ ناجحة.

وفي المستقبل، يمكن أن تشهد الجهود الرامية إلى وضع أجندة جديدة للتعاون الإقليمي تحركا نحو قيادة عربية وهيكل أمني مستقل للشرق الأوسط خال إلى حد كبير من تدخل الجهات الفاعلة الخارجية. ويكمن مفتاح ساحة المعركة في هذا السياق في منطقة بلاد الشام وخاصة في العراق بالنظر إلى أن سوريا من المحتمل أن تحتاج عقود طويلة من أجل عودة ظهور ما يشبه الدولة التي يمكن أن تعيد تأكيد دورها على المستوى الإقليمي. وغالبا ما ينظر بشكل متزايد إلى التركيز على المصالح الوطنية العراقية والشخصية العربية وعلاقاتها بالعالم العربي على أنها حاسمة عندما يتعلق الأمر بالأمن العام للشرق الأوسط. ومع ذلك، ستبقى سوريا أيضا موضع اضطراب عندما يتعلق الأمر بإعادة انخراط دول مجلس التعاون الخليجي معها ، بما في ذلك إعادة فتح سفارتيها من قبل الإمارات والكويت بالإضافة إلى إعادة قبول سوريا في جامعة الدول العربية اعتبارا من أوائل عام 2019 ، وهو اعتراف واضح بأنعزل نظام الأسد والابتعاد عن دمشق لا يفضي إلى نقل المنطقة إلى وضع اكثر استقرارا .

ومع ذلك، يجب أن يكون الهدف النهائي هو ترتيب يشمل أيضا الدول غير العربية كتريكا وإيران وإسرائيل وكذلك الجهات الفاعلة الدولية الرئيسية مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين وأوروبا. وقد تكون نقطة البداية الجيدة هي إطار عمل يتمحور حول المكونات دون الوطنية والإقليمية والدولية المترابطة يستلزم إصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية وتعليمية وليست مجرد تغييرات تجميلية ، وأمن إقليمي الإطار يشمل جميع دول المنطقة ويحوي ضمانات دولية تعبر عن الإرادة الجماعية للمجتمع الدولي من خلال إعلان إجماعي من مجلس الأمن يأخذ فى الاعتبار التحولات المتشابكة التي تحدث على المستويات المحلية والإقليمية والدولية في الشرق الأوسط وتؤثر على البيئة الأمنية بالشرق الأوسط في الوقت الحالي.

1 فكرة عن “تحليل مقارن لادارة الأزمات الدولية وتأثيرها على المركب الأمني الاقليمي للدول الشرق أوسطية”

  1. Pingback: اسرار الطوفان - اقتصاديو العرب

التعليقات مغلقة.