اقتصاديو العرب

سلسلة بونزي

سلسلة بونزي: وهم الثراء وضياع الأموال أم جشع المحتال

أذكر أنه قبل عقد ونصف العقد تقريباً كنت قد تخرجت حديثاً من الجامعة وابتدأت العمل في أحد البنوك المحلية، وفي ذلك الوقت انتشرت موجة عارمة بهوس الاستثمار في بورصة العملات الأجنبية والذهب وكان لدى المستثمرين قناعة بانها ستوفر لهم ايرادات عالية وتحقق لهم الثراء السهل.

وفي ذلك الوقت كان هناك العديد من اصحاب المكاتب التي انتشرت من شمال المملكة الى جنوبها ولم تترك قرية أو مدينة ولا حضر ولا ريف الا كان لها نصيب من الهوس بهذا الاستثمار وايداع اموالهم بايدي اصحاب تلك المكاتب، وأذكر منهم شاب عشريني ذاع صيته على أنه من كبار أصحاب المكاتب وأنه على درجة عالية من الفطنة والمهارة بالاستثمار، وأن متوسط العائد على رأس المال لمن يودع أمواله ويستثمر لديه يزيد عن (15%) بشكل شهري، مما جعل العديدون يسحبون أموالهم من البنوك أو يلجؤون الى الاقتراض أو بيع بعض من اصولهم المتوارثة لايداعها لديه.

تم تقدير قيمة الأموال التي اودعت لدى تلك المكاتب بانها تتراوح ما بين (250) الى (700) مليون دينار أردني، وأعتقد جازماً أن هرقل عظيم الروم أصبح له حق الاعتراض على نبش آثار شعبه ومحتويات حضارته القديمة في محاولة لإيجاد دفائنه الذهبية زعماً بأنه يرقد على كنوز ومن يحاولون القيام بذلك استطاعوا بفترة وجيزة أن يوفروا مثل تلك المبالغ وهم يعتبرون من ذوي الدخل المتوسط والمحدود.

فرحة من اعتقدوا أنهم مستثمرين ويتقاضون مبالغ وعوائد ما لبثت أن تبخرت بعد انفجار فقاعة ووهم تلك المكاتب، وبدأت الدولة بإحالة تلك المكاتب لمحكمة أمن الدولة باعتبارها جرائم اقتصادية تمس الأمن الاقتصادي للدولة، وبدأت تتكشف حقيقة هؤلاء الأشخاص بانهم محتالون على طريقة بونزي وكأن التاريخ يعيد نفسه.

ولمن لا يعلم من هو بونزي، فإنه يعد من أشهر المحتالين في العصر الحديث والأسلوب الذي استخدمه وأطلق عليه مخطط أو سلسلة بونزي لا زال يستخدم وينجح بكثرة. تشارلز بونزي مهاجر ايطالي تعلم الإحتيال في موطنه وانتقل بعد ذلك الى الولايات المتحدة ليمارس طرقه الاحتيالية، واستطاع بطرقه الاحتيالية جمع ما يزيد عن (15) مليون دولار في عشرينيات القرن الماضي باحتياله على الآف الأشخاص.

مخطط بونزي هو عملية احتيالية يتم فيها إيهام الأشخاص باستثمار أموالهم، ويتم دفع الأرباح والعوائد للمستثمرين القدامى عن طريق جمع الأموال من المستثمرين الأحدث، وسر نجاح هذه الطريقة الاحتيالية هو أنها تدغدغ مشاعر وأطماع الأشخاص بشكل يجعلهم يغيبون العقل والمنطق من أجل الحصول على الربح السريع والسهل واللذي لا يتحقق الا بالأحلام، ولو أن هذا موجود في كراسات العلم لوجدنا اساتذة الجامعات سيعلمونه لطلابهم في الدرس الأول لمبادئ الاستثمار بدلاً من خطر وضع البيض في سلة واحدة كمثال عن أهمية تنويع المخاطر في الاستثمار.

تبدأ العملية او سلسلة بونزي من خلال استقطاب الأشخاص بإيداع مبالغ لدى هذا المستثمر المزعوم واغرائهم بنسبة أرباح عالية تدفع شهرياً أو سنوياً نظير استثمار هذه المبالغ، وتكون نسبة الأرباح أعلى من نسبة الفوائد التي تقدمها البنوك على الودائع أو عن متوسط الأرباح على الاستثمارات الأخرى في الأجل القصير.

في البدايات يتم توزيع أرباح على المستثمرين الجدد لطمئنتهم واسعادهم بحيث يصبحون لا شعورياً هم من يتحدثون ويسووقون لهؤلاء المحتالين ضمن دائرة معارفهم واصدقائهم، ويصبح هذه المستثمر المزعوم حديث الصالونات والكل يتهافت لمعرفة أخباره وتداول المعلومات عن عبقريته الفذه بتحقيق الأرباح، وبذلك تستمر دائرة أو سلسلة المستثمرين بالإتساع  بحيث تدفع أرباح كل دائرة من المستثمرين من ايداعات الدائرة التي تليها ومن غير وجود استثمارات حقيقية، والفائض يصبح للمحتال.

وتستمر العملية حتى يهرب المحتال بالأموال التي جمعها من الناس أو تصل العملية للذروة والحد الذي لا يمكن تغطية الأرباح فقد وصلت السلسلة الى التشبع، وتبدأ السلسلة بالانهيار بكافة دوائرها وبسرعة كبيرة بحيث لا تمكن المستثمرين من استرجاع اموالهم.

والغريب في هذا المخطط أنه لم ينته بانتهاء صاحبه بونزي، بل لا بد أن تسمع عن قضايا احتيال تتم باستخدام هذا المخطط كل عدة أعوام، ومن أبرز القضايا الاحتيالية التي تمت بهذا المخطط قضية برنارد مادوف التي اكتشفت عام 2008.

برنارد مادوف هو رجل أعمال ومصرفي أمريكي كان يشغل المدير الغير التنفيذي لسوق الأسهم في ناسداك وهو أكبر محتال معترف به في امريكا، قام مادوف بتزوير وثائق تداول ليظهر أن عملاءه كانو يجنون أرباحاً طائلة من استثماراتهم التي لم يكن لها وجود، ويقال أنه وباستخدام أسلوب بونزي قام بجمع ما يزيد عن (50) مليار دولار أمريكي جمعت من قبل الآف العملاء، وانتهى موضوعه عندما  بدأت السلطات باكتشاف احتياله وطالبه عملاءه بالمبالغ المودعة وتبين أنهم وقعوا ضحية لمحتال وهو عاجز عن الايفاء بالالتزامات المترتبة عليه منذ سنوات، وحكمت عليه المحكمة بالسجن مدة 150 عاماً بالاضافة الى فرض غرامات مالية.

خلاصة القول أن مخطط بونزي ما زال حياً ويتجدد باستمرار وتتعدد أساليبه بتغير التكنولوجيا والاستراتيجيات المستخدمه، وأصبحت وسائل التواصل الاجتماعي تسهل من عملياتهم وأساليبهم للوصول الى الناس، وكل ذلك يتغذى بجشع الناس وأطماعهم وحبهم للثراء السهل، ونحن نقول أن عملية أو سلسلة بونزي تختصر بالمقولة الشهيرة: “ما خانك الأمين لكن ائتمنت الخائن”.

1 فكرة عن “سلسلة بونزي: وهم الثراء وضياع الأموال أم جشع المحتال”

  1. Pingback: ماهية العملات الرقمية: النشأة، المفهوم، الأنواع، الخصائص - اقتصاديو العرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *