اقتصاديو العرب

الموازنة الصفرية

علاقتنا بالموازنات الصفرية

قام سيدنا يوسف عليه وعلى الحبيب المصطفى الصلاة والسلام بإعداد أول موازنة للقمح المتوقع إنتاجه في بلاده ثم حدد حجم كلٍ من الإنفاق والاستهلاك خلال عدة أعوام قادمة، حيث قال تعالى في كتابه العزيز

﴿قَالَ تزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مّمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعصِرُونَ(49)﴾

“سورة يوسف”

وكان أول من تطرق لموضوع الموازنة بشكلها المعهود المفكر الأمريكي De Gazenx في كتابه “التطور التاريخي للتكاليف” سنة 1825م، أما الاستخدام العملي لها فقد تبلور نتيجة الكساد العالمي خلال الفترة 1929-1933 إنطلاقاً من فكرة أنه يجب استخدام الموازنة للتخطيط والرقابة على العمليات المستقبلية حتى لا تتكرر حالة الكساد هذه.

اقرأ أيضاًالافصاح المحاسبي

اقرأ أيضاً: معايير المحاسبة والابلاغ المالي الدولية

ومع ما تشهده اقتصاديات كافة بلدان العالم من تغيرات لحظية، تنامت صعوبات ومخاطر عملية التخطيط، لذلك شهدت الفترة الأخيرة كثير من الإجتهادات في محاولة للتوصل إلى تلك الطريقة الأكثر أمناً عند تحديد ما هو مستهدف من مصروفات وإيرادات خلال الفترات المستقبلية أو ما يعرف بالموازنة. وهذا جعل من الأساليب التقليدية لإعداد الموازنات الحكومية أكثر عرضة للعديد من الإنتقادات، فالموازنة تعد إحدى أدوات رقابة الأداء، حيث يمكن من خلالها رقابة كافة البرامج والمشروعات المختلفة، حيث يمكن من خلالها وضع تصور مسبق للأعمال كافة التي سيتم تنفيذها حتى يمكن تحقيق الأهداف الموضوعة وتحسين أدائها، وهنا تبرز أهمية تمكن الموازنة من تحقيق مجموعة من الأهداف يأتي في مقدمتها التنبؤ بالمستقبل والرقابة واتخاذ القرارات وتخصيص الموارد وغيرها.

اقرأ أيضاً: تاريخ موجز للاقتصاد المخطط

الموازنة الصفرية، يعود بزوغ فكرة الموازنة الصفرية لعام 1952م حين قدمها المفكر فيرن لويس، وجاءت في محاولة للتخلص من عيوب اسلوب توزيع الاموال بالموازنة العامة آنذاك، ليشهد عام 1961م بداية التطبيق للموازنة الصفرية عندما قدم ديفيد بيل مدير مكتب الموازنة بوزارة الزراعة الأمريكية اقتراح بتطبيقها من خلال المطالبة بمراجعة التمويل الخاص بكل برنامج مع توفير المبرر لوجود كل برامج ومشروعات الموازنة من الصفر، لتبدأ بالفعل وزارة الزراعة الأمريكية في عام 1962م بتبني موازنة الأساس الصفري لإعداد موازنة عام 1964م.

الفكرة الأساسية للموازنة الصفرية تتمثل في إرتكازها على مبدأ الإلتزام بمراجعة وتقييم عناصرها من برامج ومشاريع القديم منها والجديد، حيث يتم تقديم مبررات وحجج لدعم كافة عناصر الموازنة كما لو كانت جديدة ويتم تقديمها لأول مرة.

وحيث أن الموازنة أحد أهم أدوات رقابة ما يتم انفاقه وما يتم تحصيله من موارد مالية، تبرز أهمية الموازنة الصفرية في مراقبة ما تحوية الموازنة من برامج ومشروعات، فمن خلال الموازنة الصفرية يمكن ترشيد الانفاق مع عدم الاخلال بما هو مصاغ من أهداف، فهذه الطريقة لاعداد الموازنة تمتاز بامكانية المتابعة والتقييم بشكل متواصل ومستمر، فمن خلالها يتم تقديم دراسات جدوى لعناصر الموازنة من أجل التأكد من إمكانية تحقيقها وضمان عدم الإضرار بالمال العام، وهو ما يشير لامكانية الحد من إهدار المال العام باتخاذ الاجراءات التصحيحية اللازمة في الوقت المناسب.

إلا أن الواقع العملي أثبت صعوبة تحقيق تقييم كافة عناصر الموازنة في كل مرة بدرجة الكفاءة المرجوة، لاحتياجه لوقت وجهد وكفاءة، فضلاً عن صعوبة تقييم جدوى كل مشروعات الدولة بشكل سنوي. فالموازنة الصفرية، ويطلق عليها الموازنة الناشئة، والتى تبدأ من الصفر ولا تعتمد على ما يسبقها من اتجاهات، على عكس الموازنة التقليدية التي ينظر فيها لما تم وضعه من أرقام خاصة بالسنة المالية السابقة، وبالتالي فأي عنصر يوجد بداخلها يكون له سبب مبرر في وجوده، فهي تحدد أولوية كل عنصر بها، وتضمن تقييم كل عناصرها في كل مرة عند إعدادها.

فتفعيل الموازنة الصفرية يجعل الجهات الحكومية  أكثر قدرة على التكيف بسهولة مع الظروف الطارئة. ومن خلالها يمكن تحديد مقدار تكلفة كل عنصر من عناصر الموازنة والسبب الذي يرجع لوجوده، أو ما يقدمه كل عنصر من عوائد لاصدار القرار الخاص بتكلفته، ولذلك يحدث بالموازنة الصفرية عدد من التعديلات المفاجئة المتمثلة في الاستبعاد.

وتمتاز الموازنة الصفرية عن الموازنات التقليدية لاستخدامها الأسلوب العلمي عند تقيم أي نشاط. فهي تتيح الفرصة لحساب القيم وما يعود منها، وهذا يتيح الفرصة لتحدد النفقات التي قد تكون غير ضرورية وتتسم بالإفراط ليتم القضاء عليها، كما أنها تضمن تحقيق ما يتم وضعه من أهداف نظراً لمشاركة جميع الأطراف في صناعة القرار. فهذا الأسلوب لاعداد الموازنة يساهم في رفع درجة الكفاءة والفعالية في أداء الأنشطة الحكومية من خلال تحديد أولويات برامج الموازنة، والقاء الضوء على جدوى تلك البرامج من أجل إعادة تخصيص الموارد بشكل أفضل.

إلا أنها تستهلك أوقات طويلة عند إعدادها، وتحتاج لقوى عاملة عالية الكفاءة، نظراً لإعدادها من النقطة الصفرية، ومشاركة عدد كبير من العاملين في إعدادها، كما يؤخذ عليها عدم إهتمامها بالأهداف الاستراتيجية أو طويلة الأجل حيث يلاحظ تركيزها على الأهداف قصيرة الاجل الى حد كبير، فضلاً عن احتياجها الى حجم بيانات كبير قد يتعذر توفيره من قبل الجهات الحكومية لأعدادها بالشكل المطلوب، حيث يتم إدراج جميع الايرادات والنفقات دون اجراء مقاصة بينهما.

العلاقة بين تخطيط البرامج والمشروعات وبين الموازنة الصفرية، تمتاز عمليات الموازنة الصفرية بامكانية الكشف عن أي عملية تخطيط، لأنها تتضمن تحليلا وتقييما كاملا للقرارات الخاصة بكل وحدة تنظيمية يدخل ضمن اختصاصها تنفيد برنامج أو نشاط معين وتوفير البيانات والمعلومات الكافية التي تمكن جهاز الموازنة العامة من تقييم كفاءة المشاريع والأنشطة ومقارنة ذلك بغيرها من البدائل التنموية. فبعد أن يتم تحديد واختيار البرامج وسياسات التنفيذ في ضوء عمليات التخطيط، تضمن الموازنة الصفرية إعادة واستمرار تقييم هذه البرامج، وملاحظة مدى أهمية وفوائد تنفيد تلك البرامج، مع العلم ان عمليات التقييم تتم حسب أهمية البرنامج قياساً بغيره من البرامج الاخرى المتاحة، ففي ضوء عملية التقييم يمكن اختيار بدائل أخرى عوضاً عما تم وضعه من برامج.

اقرأ أيضاً: الاقتصاد المعرفي وأهميته للدول العربية

الإمارات العربية والموازنة الصفرية، تعد الإمارات الدولة الخليجية الأولى التي تطبق الموازنة الصفرية، وذلك في محاولة لدفع الإمارات نحو مصاف الدول المعترف بها دوليا بالممارسات الأفضل في إعداد الموازنة وإدارة الموارد الاتحادية. وهذا الاسلوب من شأنه زيادة مستوى شفافية إعداد الموازنة، كما انها تواكب النمو المطرد الذي تشهده الدولة وتحقق الأداء الأفضل في إحداث الأثر الأقصى في الإنفاق العام والاستخدام الأفضل للمصادر والموارد، وتمكنت الدولة من تطبيق الموازنة الصفرية الثلاثية والموازنة البرنامجية في موازنة 2011 – 2013 تماشياً مع ما تشهده البلاد من تطورات اقتصادية، ونمو الناتج المحلي الإجمالي، والحاجة لرفع مستوى الشفافية عند إعداد الموازنة، حيث ان نظام إعداد الموازنة التقليدي يقوم على افتراض بيئة مستقرة تظل فيها تكلفة الأنشطة شبه ثابتة على مر السنين.

بناء على ذلك، يتبين لنا عدم تمتع هذه الطريقة الصفرية في أغلب البلدان العربية بالدعم الكافي لتطبيقها عند إعداد موازناتها الحكومية السنوية، وبالرغم من عدم وجود أي مبرر لدعم قبولها أو رفضها، فقد تشهد الفترة القادمة إنتشار واسع المدى لتطبيق هذه الطريقة الصفرية بالبلدان العربية، فقد تشهد الأسواق العربية مجموعة من العوامل الداعمة لتبني هذه الطريقة لتصبح أهم الطرق والأكثر إنجازاً لما يتم تنفيذه من برامج تنموية.

يقلم/ دكتور ناصر عبد المهيمن

خبير اقتصادي

اقرأ أيضاً: اقتصاد المعرفة

اقرأ أيضاً: تطور التكنولوجيا والاقتصاد

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع اقتصاديو العرب © 2021