اقتصاديو العرب

العلوم البحتة والعلوم النظرية

العلوم البحتة والعلوم النظرية في ميزان المعارف والعدالة الإنسانية

إن ثمة حرب باردة أو غير معلنة، استعر أوارها، قديمًا، بين الفقهاء، من جانب، وبين غيرهم، من العلماء، ممن يشتغلون بالعلوم غير الفقهية، بأنواعها وضروبها المتعددة والمتنوعة، من جانب آخر، وعلى الرغم من الحروب كلها شرر وشر مستطير، إلا أن الحرب بين الفقهاء وغيرهم من المشتغلين بالعلوم النظرية والعلمية، قد أفادت الحقل المعرفي، لاسيما الحضارة الإسلامية، أيما فائدة، وقد كان للصراع بين الطرفين أثره الإيجابي على النهضة العلمية في الحضارة الإسلامية، ونلمس ذلك من خلال المعرفة الموسوعية التي ميزت الكثير، إن لم يكن الكل، المؤلفات التي خلفها المشتغلون بالعلم والمعرفة والثقافة …..

اقرأ أيضاً: العزلة…ملهمة المبدعين والفلاسفة

اقرأ أيضاً: الصبر وفلسفته وماذا يريد منا الله!

فالمطلع على المؤلفات القديمة لا يجدها تنحصر في موضوع بعينه، وإنما هي بمثابة بل موسوعات علمية تفيض بألوان المعرفة والعلوم، وعلى رأس تلك الكتب، على سبيل المثال، لسان العرب “لابن منظور“، الأغاني “للأصفهاني”، عيون الأخبار “لابن قتيبة”، الأمثال “للميداني”، عيون الأنباء في طبقات الأطباء “لابن أبي أصيبعة”، الحيوان “للجاحظ”، الطبقات “لابن سعد”، احصاء العلوم “الفارابي“، الكامل “للمبرد”، الأمالي “للقالي”، العقد الفريد، “لابن عبده ربه” الذخيرة “لابن بسام”، معجم البلدان “للحموي”، ..، والقائمة أطول .. ويضيق المجال عن حصرها، وليس هذا مقامها وإنما ذكرت عرضًا في هذا الباب.

حيث يمثل الصراع بين المعتزلة، وعلى رأسهم واصل بن عطاء، وبين الأشاعرة، وزعيمهم الحسن البصري، أبرز تلك الصرعات التي نشبت بسبب مرتكب الكبيرة، هل هو كافر مخلد في النار، أم أنه مؤمن عاص؟، فخالف واصل رأي أستاذه البصري، وقال: “هو في منزلة بين المنزلتين”، واعتزل حلقة البصري وصنع لنفسه حلقة وجماعة عرفوا بالمعتزلة.

ولم ينحصر الصراع والخلاف في الطبقتين المذكورتين سابقًا، بل امتد إلى الصراع بين الفقهاء أنفسهم، كذلك لم يسلم منه أصحاب العلوم النظرية والعلمية، فكل منهم يرى أنه هو الأحق والأجدر بأن يتقدم الركب وأن يأخذ بمقود الموكب العلمي دون غيره من أهل المعرفة، باعتباره الأكثر أهمية من غيره.

اقرأ أيضاً: السلوك الانساني بين الأنس الاجتماعي والتوحش الانعزالي

إن أصحاب العلوم البحتة: الرياضيات؛ الفيزياء؛ الكيمياء؛ والأحياء، وما اتصل بها من مجالات المعرفة العلمية، لا يرون لأحد، سواهم، فضل في هذا التقدم العلمي والتقني الذي انتظم العالم اليوم، ولا ينسبون هذا الشرف إلا لأنفسهم فحسب، وينازعهم، في ذلك الشرف، أهل العلوم النظرية من: لغويين؛ أدباء؛ مؤرخين؛ جغرافيين؛ المشتغلين بالفنون؛ وعلماء نفس؛ وأهل الفكر والسياسة ..؛ وغيرهم من ذوي العلوم الإنسانية المتشعبة.

والسؤال هو، من الظالم ومن المظلوم؟ ومن هو صاحب الريادة المعرفية، ومن الأحق بقيادة الإنسانية؟، هل هم أهل العلوم البحتة، أم هم ذوو العلوم النظرية؟.

فكلا الطرفين لديه من الأدلة والبراهين ما يؤيد منطقه ويدعم موقفه في هذا الميدان التنافسي الشريف، والذي لا يقبل مثقال ذرة من الغش أو الخداع، فهو تنافس يقوم على مبادئ الشرف والنزاهة والأمانة، ولكنه، وقبل كل شئ، يعتمد على الحقائق العلمية.

اقرأ أيضاً: قائد المركبة

يقول أهل العلوم البحتة، إن أصل الفضل في التقدم التقني والعلمي يعود للأرقام فهي أساس الرياضيات، وهي القاعدة التي شيد عليها البناء العلمي بكامله، وليس هذا فحسب، فإليهم يعود الفضل في الاهتمام بصحة الإنسان والحيوان في الغذاء والعلاج، وعلى أكتاف مهندسيهم نهض العمران، وبعلمهم دارت الآلات نهضت الزراعة وتطورض الصناعة..، وكأن لسان خطيبهم ينطق بلسان عمرو بن كلثوم حين يقول:

ألا لا يجهلن أحد علينا * فنجهل فوق جهل الجاهلينا
إذا بلغ الفطام لنا صبي * تخر له الجبابرة ساجدينا

وهل يصمت أرباب الفصاحة والقلم وذوي البلاغة والفهم، من أولئك النفر المختصين في العلوم النظرية؟، حاشا وكلا، وألف ألف لا وكلا. فراحوا يكيلون المكاييل من فصاحتهم وبلاغتهم، ما يدفع عن شأنهم التقليل ويبعد عن قدرهم التحقير.

والله، الذي لا إله سواه، لن تنالوا هذا الشرف دوننا ولا تتقدموا علينا في هذا الميدان، فنحن أهل الحجا والعقول، ونحن من دون الكتاب الممهور، وسجل التاريخ المسموع والمنظور، فحفظنا لكم تلكم العلوم التي تتفاخرون بها علينا، فلولا أقلامنا ما وجدتم رقًا مسطورا ولا أثرًا محفورا ولأضحت علومكم هباءً منثورا. ولقد تمثل خطيبهم بقول شاعر الدولة الحمدانية، أبو فراس الحمداني، حين قال:

سَيَذكُرُني قَومي إِذا جَدَّ جِدُّهُم * وَفي اللَيلَةِ الظَلماءِ يُفتَقَدُ البَدرُ
فَإِن عِشتُ فَالطَعنُ الَّذي يَعرِفونَهُ * وَتِلكَ القَنا وَالبيضُ وَالضُمَّرُ الشُقرُ
وَإِن مُتُّ فَالإِنسانُ لابُدَّ مَيِّتٌ * وَإِن طالَتِ الأَيّامُ وَاِنفَسَحَ العُمرُ
وَلَو سَدَّ غَيري ماسَدَدتُ اِكتَفوا بِهِ * وَما كانَ يَغلو التِبرُ لَو نَفَقَ الصُفرُ
وَنَحنُ أُناسٌ لا تَوَسُّطَ عِندَنا * لَنا الصَدرُ دونَ العالَمينَ أَوِ القَبرُ
تَهونُ عَلَينا في المَعالي نُفوسُنا * وَمَن خَطَبَ الحَسناءَ لَم يُغلِها المَهرُ
أَعَزُّ بَني الدُنيا وَأَعلى ذَوي العُلا * وَأَكرَمُ مَن فَوقَ التُرابِ وَلا فَخرُ

ويحتدم الحوار وترتفع الأصوات بالافتخار، عندها، يتدخل أهل الحكمة والعقول الفلسفية وحراس كل فضيلة أزلية، مبدين حججهم العقلية وبراهينهم المنطقية، لعلهم يتمكنوا من أن يعيدوا الأمور إلى نصابها المعلوم ويوقفوا كل طرف عند حده المرسوم. فمن طال صمته تناثرت حكمته، ومن كثر حديثه تتابعت أغلاطه، وجاء في الأمثال “البراميل الفارغة أكثر جلبة”؛ من هذا الباب اتسم الحكماء، من أهل العلم والأدب، بالصمت وطول التأمل. يقول أهل الحكمة والرأي السديد: لو سكت من لا يدري استراح الناس. وقالوا: بكثرة، لا أدري، يقل الخطأ. وحكي عن المأمون أنه قال: رأيت في المنام رجلا على الهيئة التي يوصف الحكماء بها، خيل إلي أنه أرسطاليس، فتقدمت إليه، وسلمت عليه، وقلت له: أيها الحكيم، ما خير الكلام؟ فقال: ما يستقيم في الرأي، قلت: ثم ماذا؟، فقال: ما يدل قليله على كثيره، قلت: ثم ماذا؟ فقال: ما لا تخشى عاقبته، قلت: ثم ماذا؟ فقال: لا ثم!.

إن الحكماء هم أولئك النفر الذين درسوا الآداب بعقولهم، وتعلموا العلوم بقلوبهم، حيث تحلوا، في البدء، بفضائل الآداب، ثم اقتحموا العلوم وفتحوا الأبواب، فكان من بينهم العالم الأديب الأريب، والأديب العالم، وهم، للإنسان، بمثابة الأطباء للأبدان، فلا غنىً لعاقل عنهم مهما قصر، أو طال، الزمان. قال تعالى:

(رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) البقرة: 129.
(كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) البقرة: 151.
(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ) البقرة: 231.
(وَآَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ) البقرة: 251.
(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ) البقر: 269.
(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) آل عمران: 48.
(وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآَتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ) ص: 20.

اقرأ أيضاً: ريادة الأعمال: المفهوم، والأهمية، ولماذا يصبح الناس رواد أعمال؟

اقرأ أيضاً: استشراف المستقبل

اقرأ أيضاً: اقتصاد المعرفة

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع اقتصاديو العرب © 2021