اقتصاديو العرب

الثقافة

المثاقفة النبيلة

المثاقفة النبيلة

إذا كان بعض العاجزين فكرا ً أو فعلا ً لا يرتاحون إلى المثاقفة ، وإذا كان بعض الإنتهازيين تجار الشعارات الإنفعالية يرفضون منطق المثاقفة رفضا إنفعاليا جاهلا أو حتى رفضا منافقا في أحيان. فإن الحقيقة التي تقف ضدهم إلى جانب الحكمة السامية والثقافة الرفيعة والحياة الكريمة هي أن المثاقفة ضرورة حياتية تقتضيها المعرفة الحقيقية والحكمة النافعة والحياة الغنية الممتلئة . بل إن الله أحكم الحاكمين يدعوا إلى المثاقفة النبيلة الشريفة الخيرة . يقول تعالى:-

( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا . إن أكرمك عند الله أتقاكم ) .

وإن الأنبياء يدعون إلى المثاقفة الحقيقية النافعة : يقول الرسول محمد عليه الصلاة والسلام : ( الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها ) ومما ورد عن المسيح عليه السلام : ( الحقيقة تحرركم ) .

إن موجودات الوجود ليست حكرا على أحد . بل هي ملك لله أولا ثم للبشر جميعا بتمليك مالك الملك. والثقافة الشريفة النافعة ليست ملك أحد من الناس . إنها ملك لله أولا ، ثم ملك من يستوعبها ويمتلكها ويستفيد منها من البشر العقلاء . وبعيدا عن الأوهام والإنفعالات الركيكة ، فإن الإستيراد الرشيد لما هو حقيقي وخير ونافع خير من التصدير السفيه لما هو وهمي وباطل وشر وضار. الغرب ربح التكنولوجيا والفوضى التي تفرض نظامها الباهر المغري بالعنف والكذب والخداع والغدر، مقابل خسارة الحق والخير والجمــــــــــــال ، وخسارة الحياة والإنسان كنتيجة حتمية .

المثاقفة تعني فيما تعنيه ( ببراءتها الأصلية ) : الرغبة في التأثير والتأثر النافع الشريف . و تعني استلهام الحقائق والأفكار والرؤى والإنجازات التى اكتشفها وأبدعها الآخرون ولو كانوا أعداء وخصوما . والإستفادة منها ومزجها بما عند الذات من حقائق وأفكار ورؤى وإنجازات . وتوظيف جميعها من أجل بناء نظام ثقافي محكم مؤسس على الثوابت الحقيقية ، لا على ما يسمى ثوابت، وعلى الهوية الحقيقية التي تميز الإنسان الحقيقي كما أراده الله عن غيره . نظام يستمد قوته من قوة تلك الثوابث، ومن امتياز تلك الهوية الممتازة امتياز الحق عن الباطل والخير عن الشر والجمال عن القبح .

إن ثنائية ( نحن والآخر ) ، التي هي أحد موانع أو معوقات المثاقفة الصحيحة النافعة , هي ثنائية وهمية لا وجود حقيقيا له ، باعتبار أكثر مظاهرها الواقعية النفسية والإجتماعية والسياسية وغيرها في تفاعلها أو استقلالها . فكما أن الذات تدخل في صناعته وتجليه الواقعي الإجتماعي أوهام غالبا ، فكذلك (وبالأحرى ) أن الآخر ومظاهره تصنعه وتصنعها أوهام كذلك .. فالمثاقفة الحرة الشريفة النبيلة الإنسانية الحقيقية ينبغي أن تنطلق ، من هذه الحقيقة النبيلة : أن ما عند الآخر من ( حق وخير وجمال )، أو أشكال ومظاهر وتجليات وواقعات هذا الثالوث الحسن، هي أمنية الذات ومطلبها واحتياجها وشرفها، وأن ما عند الذات من (باطل وشر وقبح ) أو أشكال ومظاهر وتجليات وواقعات هذا الثالوث السيء هي شر وضرر وعار، يجعل (الذات لذاته ) عدوا ونقمة وسبة. وهذا ما يجعل الآخر في الحقيقة ، صديقا ووليا وحبيبا ، وخيرا للذات من الذات . كل ذلك بعيدا عن الأوهام التي تعيش علينا ونعيش عليها .

وليس من الحكمة سد باب المثاقفة بدعوى الرد على الغزو الثقافي .. بل أكثر من ذلك : أن سد باب المثاقفة بهذا الشكل الساذج الركيك الإنفعالي ، هو في الحقيقة شكل من أشكال الإستسلام للغزو الثقافي وترسيخ له وإنجاح .. لكن بشرط ان تكون المثاقفة حكيمة واعية رشيدة . لا تستنسخ إستنساخا أعمى أو أحمق . وإن كان ليس كل استنساخ – في الحقيقة – استنساخا أعمى أو أحمق كما توحي السمعة غير المرغوبة لهذه الكلمة – أعني الإستنساخ – في هذا الواقع المعرض دائما للخلط والتخليط .

وبسبب استيلاء النقص على البشر , فإن المثافقة الحكيمة هي سعي إلى تحقيق الكمال الإنساني بالتأثير والتأثر . على أن يكون الهم وتكون النية دائما تغليب الصواب على الخطأ ، وتغليب الأصوب على الصواب . فكل ثقافة تتضمن حسنات وسيئات . فإذا كانت سيئات ثقافة ما ضارة حتى بأصحابها ، فإن حسنات ثقافة أخرى ولو كانت ثقافة عدو ، هي نافعة وضرورية للجميع . على أن يكون المقياس دائما نظاما ومنهجا مزيجا من الحق المنقول المتمثل في الوحي ، والحق المعقول المتمثل في العقل الإنساني السليم ، حيث الوحي يوجه العقل والعقل يكشف الوحي ..

المثاقفة مثاقفتان : مثاقفة إنسانية حسنة ومثاقفة شيطانية سيئة . المثاقفة الإنسانية تعني أن ننظر إلى ما عند الغير ولو كان عدواً ( أو صنعناه عدوا بعجزنا عن كسبه وإدارته بالحكمة والإحسان والتسامح ) من صواب ونافع على أنه ملكنا وحقنا نحن أيضا وأن ما عندنا من صواب ونافع هو ملك له وحق . وأن لا نمجد ما عندنا من الباطل والخاطئ والضار تعصبا وخضوعا للإنفعالات الزائفة والأوهام والتقاليد ..

الحضارات الإنسانية كلها إنجاز إنساني واحد ، خيرها وشرها . وهي ملك لكل إنسان . هكذا يريد الله الذي تذوب لديه الإنتماءات الجزئية الشكلية ، وهكذا يريد الشيطان كذلك ، ولكن بمعنى مختلف جدا . يريد الله من الأنسان أن يطلب الحق والحقيقة والخير والحكمة والصواب أيا كان مصدرها . ويريد الشيطان من الإنسان أن يطلب الباطل والوهم والشر والحماقة والخطأ أيا كان مصدرها . وهكذا ينبغي أن يكون الإنسان كما يريد الله له : أن يطلب الحق والحقيقة والخير والحكمة والصواب أيا كان مصدرها .

هذه قاعدة من قواعد الحياة البديهية والواضحة وضوح الشمس .. خالفها وخانها البشر وزورها الساسة الأنانيون والمثقفون المصطنعون الجهلاء ، فكانت النتيجة : الشر والفساد والفوضى ، تحت غطاء التقدم والديمقراطية وأشكال الحرية المصطنعة والثقافة الزائفة ..!
جميل شيخو