اقتصاديو العرب

العقوبات الاقتصادية

الحروب العسكرية والعقوبات الاقتصادية، أيهما أوقع وأنكى؟

إن إندلاع الحروب، منذ فجر التاريخ، يعد من الأمور الكريهة والبغيضة إلى النفس الإنسانية، ولا يخوضها الإنسان، في كثير من الأوقات، إلا مضطراً ومجبراً “مجبر أخاك لا بطل”، قال تعالى:

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) البقرة: 216.

وكانت العرب، برغم كثرة منازعاتهم وحروبهم، تسميها الكريهة، يقول عنترة:

وَالخَيلُ ساهِمَةُ الوُجوهِ كَأَنَّما * تُسقى فَوارِسُها نَقيعَ الحَنظَلِ
إِذا حُمِلتُ عَلى الكَريهَةِ لَم أَقُل * بَعدَ الكَريهَةِ لَيتَني لَم أَفعَلِ

ويقول أبو عبيد البكري في كتابه، فصل المقال شرح كتاب الأمثال:

“الحرب، أولها نجوى، وأوسطها شكوى، وآخرها بلوى”

هذا ما كان من شأن الحروب في الزمان الأول، حيث كانت آثارها، لا تذكر.

اقرأ أيضاً: ثورة الرأسمالية الرمزية

اقرأ أيضاً: مخاطر المال السياسي

الحروب العسكرية

إن من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، على العالم أن يمحو من ذاكرته الآثار المدمرة للحربين العالميتين، إلا أن من حسناتهما، أن العالم قد تعلم درساً قاسياً أسهم في توقف الحروب العالمية طوال خمس وسبعين عاماً (منذ العام 1945م وحتى اليوم)، وقد وعت الذاكرة الأوربية لاسيما، الألمان والإنجليز والفرنسيين والإيطاليين، الدرس تماماً، للحد الذي أسهم في توقف الحروب فيها إلا في القليل النادر كحرب يوغسلافيا التي اندلعت في تسعينيات القرن الماضي (1991-1995م).
أما القوتين العظمتين، الروس (السوفيت سابقاً) والأمريكان، فذاكرتهما أشبه بذاكرة السمك، ولم تعِ من الدرس إلا الأحرف فقط. فقد تزعما، طوال 44عاماً، الحرب الباردة (1945-1989م)، ولم يكتف كلاهما بسلبيات تلك الحرب وما نجم عنها من آثار اقتصادية أثرت سلباً على اقتصادات كلا الدولتين، ليقحما جيوشهما، وهم في غمرة الحرب الباردة، في حروب عسكرية، حيث خاض السوفيت الحرب في أفغانستان، طوال سنوات ثمانينات القرن الماضي، ولم يتعظوا بما تكبدوه من خسائر اقتصادية ضخمة، أسهمت في تفكك جمهوريات الإتحاد السوفيتي 1989م، وفي العام 1991م دخلت الجيوش الروسية في صراع مع جمهورية الشيشان والذي لم ينته إلا في العام 1996م، بعد تكبد الكثير من الخسائر المادية بالإضافة إلى ألاف الأرواح، واليوم الروس يعيدون ذات الكرة ويخوضون حرباً في سوريا، ولا أحد يدري نتائجها ولا عواقبها ولا تلوح في الأفق لها نهاية مأمولة في القريب المنظور أو حتى المستقبل البعيد.
أما عن الأمريكان فهم سادة الحروب، في العصر الحديث، ولا يشق لهم غبار في هذا الميدان وسجلهم عامر بالحروب والمعارك فضلاً عن عدد كبير من الضربات الجوية الإستباقية والتحوطية، ففي أثناء الحرب الباردة أقحموا أنفسهم في حروب العسكرية عدة، بدءاً بالحرب الكورية التي استمرت لثلاث سنوات (1950-1953م) قدمت فيها الولايات المتحدة الدعم والمساندة العسكرية لكوريا الجنوبية، ثم حرب فيتنام التي اشتعلت زهاء ثمانية عشرة عاماً (1957-1975م) وخرج منها الأمريكان يجرجرون أزيال الهزيمة، وفي 1961م تسبب جون كنيدي في غزو خليج الخنازير بهدف الإطاحة بالرئيس الكوبي فيدل كاسترو، ولكنه فشل وتكبدت أمريكا خسائر مادية وعسكرية، وفي 1983م نفذت الولايات المتحدة هجوماً عسكرياً ضد جزيرة جرينادا، وهي واحدة من جزر البحر الكاريبي الصغيرة الحجم والضيلة من حيث التعداد السكاني، وفي العام 1991م قادت الولايات المتحدة التحالف المكون من تسع وثلاثين دولة ضد العراق، وبالرغم من انتهاء المعراك إلا أن الجيوش الأمريكية لا زالت تنصب خيامها وتقيم معسكراتها المكلفة والتي يدفع ثمنها المواطن العراقي المقهور والمغلوب على أمره، بينما يتمتع سواه بحظ وفير من قيمة البترول العراقي المهدر، ولن تتمكن الذاكرة الأمريكية من أن تنسى ما تجرعته، في الصومال، من مرارة الهزيمة، بالإضافة إلى الخسائر الفادحة في الأرواح والعتداد، لاسيما وأن الذاكرة الفوتوغرافية قد حفرت، على شاشات القنوات التلفزيونية، المنظر المريع لذلك الجندي الأمريكي الذي سحبت جثته النساء الصوماليات في الطرقات وأمام أعين الكاميرات، وتستمر قائمة الحروب الأمريكية لتصل القرن العشرين بالقرن الحادي والعشرين بحربها ضد حركة طالبان الأفغانية؛ وذلك عقب تعرضها لضربات جوية بطائرات مدنية مختطفة، والمعروفة بهجمات 11سبتمبر 2001م، ومع كثرة حروب القوات الأمريكية إلا أنها لم تحقق، على الإطلاق، نصراً حاسماً؛ مما اضطرها اضطراراً لتستجدي حركة طالبان للجلوس للتفاوض وطالبان تتمنع ولا تستجيب إلا بشروط يخضع لها عرش الولايات المتحدة بكل جبروته، ويغمر الأمريكان الفرح وكأنها حققت نصراً مؤزراً، حين توقع حركة، وليست دولة، طالبان معها اتفاقاً لوقف اطلاق النار.
إذاً فالخلاصة المؤكدة والنتيجة الحتمية من كل هذا السرد الطويل أن الحروب ليست لها من جدوى اقتصادية أو نفع مادي يعود على المنتصر ناهيك بالمهزوم، ولولا قوة ميزان الاقتصاد الأمريكي لانهارت الولايات المتحدة وتفككت ولاياتها، كما حدث لغريمها سالف الذكر، الإتحاد السوفيتي، من قبل.

اقرأ أيضاً: الاقتصاد الريعي والدولة الريعية….أيهما يولد الآخر؟

العقوبات الاقتصادية

بعد أن استعرضنا ندوب وجراحات الحروب العسكرية الأمريكية، وعواقبها السالبة ونتائجها السلبية، التي انعكست وبالاً على كل نواحي الحياة الأمريكية، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، .. وحتى العلمية والمعرفية منها؛ حيث تعرضت برامج وكالة ناسا للفضاء لبعض الضغوط الاقتصادية مما حد بها إلى تقليص بعض منها؛ نعرج، الآن، على مسألة العقوبات الاقتصادية الأمريكية ومدى تأثيراتها.
لم تكتف الولايات المتحدة بخوض غمار الحروب العسكرية، وإنما أضافت إليها عثرات وكبوات أخرى، تمثلت في العديد من العقوبات الاقتصادية التي فرضتها على عدد من الدول المعادية: كوريا الشمالية، كوبا، روسيا، إيران، السودان، ..، بجانب بعض الحركات والأحزاب مثل: حزب الله اللبناني، حركة طالبان الأفغانية.
إن العقوبات الاقتصادية، التي فرضتها الولايات المتحدة على تلك الدول والجماعات، ليست وليدة وقت قريب، في كثير منها، فقد انقضت عقود، طويلة، قبل أن تنهي الولايات المتحدة قيودها التجارية والاقتصادية على كوبا، كذلك توالت أكثر من أربعة عقود من السنوات على عقوبات كوريا وإيران والسودان ..، والسؤال الذي تتسع حدقات عيونه من شدة الدهشة والاستغراب، هو، ما جدوى تلك العقوبات التي لم تزد الدول المعاقبة إلا عناداً وإصراراً على موقفها دون أن تتزحزح؟

وعلى الرغم من أنها عقوبات اقتصادية أي أنها عقوبات تستهدف الحد من الأنشطة الاقتصادية لتلك البلدان؛ إلا أنها تزيد اقتصادها قوة وتحسناً، أياً كان نوعه، ولا أقول ذلك من فراغ، وإنما شهدته ولمسته في السودان، الذي أعيش في رحابه منذ بدء الحصار وحتى اليوم، حيث أصبح الوضع الاقتصادي، وأنا هنا أتحدث عن المواطن المسحوق، أسوأ مما كان عليه؛ وذلك بعد تحسن علاقاتنا بأمريكا التي لم نجن منها شيئاً حتى اللحظة بالرغم من مرور أكثر من عام على تغيير نظام الحكم في بلادنا، والمتابع للشأن الاقتصاد يلمس حجم التدهور الذي أصابه منذ تغيير النظام السابق الذي كان له أثر كبير في تحسن النواحي الاقتصادية للمواطن السوداني وحتى غير السوداني.

وفي الختام لا يملك القلم إلا أن يقول: لم تجن الولايات المتحدة الأمريكية من حروبها ومعاركها العسكرية سوى إنهاك اقتصادها، ولا من عقوباتها السياسية والاقتصادية إلا سوء السمعة في المجتمع الدولي.

اقرأ أيضاً: قصة كتاب: البجعة السوداء “تداعيات الأحداث غير المتوقعة”

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع اقتصاديو العرب © 2021