اقتصاديو العرب

الوطنية

الأوطان والوطنية إن هي إلا جواز وجنسية وأوراق ثبوتية

طافت بذهني بعض التساؤلات والاستفسارات عن مفهوم الوطنية وفكرة الوطن، ما هو مفهوم الوطن؟، وما هي الوطنية؟، هل الوطن هو تلكم الأوراق الثبوتية، التي تبين هوية الفرد وشخصيته؟، وما معنى أن يرتبط الشخص بموقع جغرافي بعينه، من دون بقاع الأرض؟ ..؟، لقد تردد صدى تلك الأسئلة في رأسي عندما قرأت أبياتًا من قصيدة للشاعر ابن الرومي:

ولي وطنٌ آليت ألا أبيعَهُ * وألا أرى غيري له الدهرَ مالكا
عهْدتُ به شرخَ الشبابِ ونعمةً * كنعمةِ قومٍ أصبحوا في ظِلالكا
فقد ألفَتْهُ النفسُ حتَّى كأنه * لها جسدٌ إن بانَ غودِرْتُ هالكا
وحبَّب أوطانَ الرجالِ إليهمُ * مآربُ قضَّاها الشبابُ هنالكا
إذا ذكروا أوطانَهُم ذكَّرتهمُ * عُهودَ الصبا فيها فحنّوا لذلكا
وقد ضامني فيه لئيمٌ وعزَّني * وها أنا منه مُعْصِمٌ بحبالكا

وعن تعريف الوطنية قيل أنها “تعبير قومي يعني حب الشخص وإخلاصه لوطنه. ويشمل ذلك، الانتماء إلى الأرض والناس، والعادات والتقاليد، والفخر بالتاريخ والتفاني في خدمة الوطن. ويوحي هذا المصطلح “الوطنية” بالشعور بالتوحد مع الأمة”.

ومن البيِّن أن هذا التعريف لا يشفي الغليل عن مفهوم الوطن والوطنية، فهذا التعريف لا يعني أكثر من ارتباط الشخص ببقعة من الأرض ليس إلا، قال أحد الشعراء:

قد يهون العمر إلا ساعة * وقد تهون الأرض إلا موضعا

إلا أن الكثير من الناس يولدون في مكان لا صلة لهم به، لا قوميًا ولا جغرافيًا، وفي نفس الوقت يطلب إليهم أن يكونوا وطنيين، فإلى أي الوطنين يكون ولاؤهم، إلى المكان أم إلى القومية؟، وربما وجد بعض الناس نفسه في نزاع بين أكثر من موضع وأكثر من قومية، حيث يكون الأب من بلد والأم من آخر، فيولد لهما طفل في بلد غير بلد الأب ولا الأم، ففي مثل هذه الحال، إلى أي جهة يميل قلبه؟، وكيف يختار وطنه؟.

وليس المقصود بالحديث هنا الإنتماء الجغرافي السياسي، فهذا أمر محسوم بالأوراق الثبوتية ولا علاقة له بالإنتماء والشعور النفسي الداخلي للفرد، وفي الغالب يرتبط الشخص بمسقط رأسه أي بالقومية والمكان الذي يولد فيه فيصبح هو له وطن، وكما أسلفنا، هذا لا يعني أكثر من تقسيم سياسي يستهدف الضبط والتنظيم الإداري لا أكثر.

وإنما الحديث هنا عن المشاعر والأحاسيس الكامنة في أعماق النفس وفي سيويداء القلب، أي الميل القلبي، وكيف يمكن أن تتشعب تتلكم الميول والأهواء القلبية، والمشاعر والأحاسيس النفسية، فتجذب الإنسان كقطب المقنطيس، ويمنحها حبه وهواه؟. ومن قوله، عليه السلام، حين خرج من مكة، ووقف على الحزورة، ونظر إلى البيت، فقال: والله إنك لأحب أرض الله إليّ، وإنك لأحب أرض الله إلى الله، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت. إلا أن حنين رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لم يكن حنيًا إلى بقعة جغرافية، ولا إلى قوم، وإنما كان حنينه هو شوق وتحنان إلى البيت، بيت الله الحرام، أطهر بقاع الأرض وأشرفها على الإطلاق، والدليل على ذلك أنه لم يأت مكة إلا لأداء الفروض والواجبات الدينية، بعد أن عمل على تطهيرها من دنس الكفر ورجس المشركين، وأنه، صلى الله عليه وسلم، مات ودفن في المدينة المنورة، وقد قيل أن الأنصار شعروا بشئ من عدم الرضا حينما قسم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، غنائم حنين فتكلمت الأنصار في ذلك، وكثرت منهم القالة، وقالوا: يعطي صناديد العرب ولا يعطينا، وأسيافنا تقطر من دمائهم!؟. فما إن تناهى الكلام إليه حتى خطبهم قائلاً: “أفلا ترضون أن ينقلب الناس بالشاة والبعير وتنقلبون برسول الله إلى رحالكم؟ قالوا: بلى رضينا قال: ولو أن الناس سلكوا وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار وشعبهم ولولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار الناس دثار والأنصار شعار”. ففاز الأنصار بالشرف العظيم، ولم يعد رسول الله، صلى الله عليه وسلم،إلى مكة المكرمة، وكذلك فعل الصحابة الأبرار، فقد تركوا ديارهم وعاشوا بالمدينة المنورة وقبروا في أرضها بجوار رسول الله، صلى الله عليه وسلم.

والمتتبع لحياة إبراهيم، عليه السلام، يجد أنه ولد وعاش، عمرًا طويلاً، بالعراق ولكنه رحل عن بلاد الرافدين ليموت ويدفن بأرض فلسطين (مدينة الخليل)، وكذلك موسى، عليه السلام، ولد وتربى بأرض مصر ولكنه تركها ورحل عنها حين أمر بأن يأخذ بني إسرائيل ويخرج بهم ففعل ما أمر.

وإذا نظرنا إلى المسلمين الأول، نجدهم قد انطلقوا مع الفتوحات الإسلامية وعاشوا وماتوا في تلك البلاد البعيدة التي فتحوها واستوطنوها وعمروها، ولم يسيطر عليهم مفهوم الوطن التقليدي بمعناه الجغرافي، فكل بلاد الإسلام وديار المسلمين هي أوطانهم، لا يستشعرون فيها بالوحشة أو الحنين إلى ديارهم ولا إلى المناطق التي خرجوا منها.

وحين نقارن ما فعله المسلمون، في فتوحاتهم، بما فعله الخواجات، وهم من عزز في نفوسنا مفهوم الوطن الجغرافي؛ ولم يكن ذلك إلا من أجل تحقيق مآربهم ومطامعهم الشخصية، فسنجد أن البون شاسع بين أولئك وهؤلاء، فالمسلمون هجروا ديارهم وأقاموا في البلاد التي نشروا فيها الإسلام، ونشروا فيها العمران وحسنوا من اقتصادها وتجارتها ونهضوا بثقافاتها وحضارتها .. وأصبحوا جزءًا لا يتجزأ منها.

أما الخوجات فقد نظروا، قبل كل شئ، إلى مصالحهم الشخصية، فعمروا بلادهم بخيرات البلاد التي استعمروها، وحينما استنفدوا أغراضهم منها، سلموها إلى أخلص أعوانهم كمكافأة لهم على إخلاصهم لهم وخدمتهم لهم، وربما كان ذلك الاستقلال، المزعزم، أشبه شئ بمكافأة نهاية الخدمة لأي موظف مخلص. وأعلم أن مثل هذا القول يقضب الكثير من الناس، ولكنها، عندي، هي الحقيقة التي لا مراء ولا شك فيها.

وعليه فإن مفهوم الأوطان المغروس في الأذهان والذي يتشربه كل إنسان مع رضاعة الألبان، هو مفهوم يكرس لخدمة الحكومات وبقاء الدولة الواحدة والعصبية البغيضة والعنصرية الكريهة، التي تأبى إلا أن تستخدم نظرية “فرق تسد” حتى يسهل عليهم السيطرة وإحكام القبضة على الدول بشكل منفرد. لقد سعى الفرنجة، بقوة، إلى التخلص من السلطنة العثمانية، والتي إن لم يكن لها من حسنة سوى ترابط المسلمين لكساها ذلك هيبة وشرفًا لا يدانيه شرف.

إن الفقر، اليوم، يعم معظم دول التعاون الإسلامي، وهي سبع وخمسون دولة، ولو أنها توحدت وارتبطت ببعضها من حيث الاقتصاد وحركة التجارة والمصالح المشتركة لكانت، الآن، السيد المطاع بلا مدافع ولا منازع، ولصارت أرضًا جغرافية موحدة بالرغم من تباعد المسافات. كذلك يعد الفقر هو القاسم المشترك في الهجرة والبعد عن الأوطان، والفقر هو الذي منع الأفارقة المحررين، 1862م، من العودة إلى جذورهم وديارهم على الرغم من الشوق والحنين الذي سكبوه في وراياتهم وقصصهم، والتي من أشهرها الجذور، لألكس هيلي، وكوخ العم توم، لهارييت بيتشر ستو.

وأين هي تلك الوطنية المزعومة ونحن نرى البعض من العراقيين وهم يأتون على ظهور الدبابات الأمريكية؟ ويدمرون بلادًا كانت ملء السمع والبصر، بعد أن تخلى الجنود، وهم حماة الوطن، عن أسلحتهم فنهب المواطنون العراقيون بلادهم. والحال من بعضه لدينا في السودان فقد سعى الكثيرون، من أولئك الذين يسمون أنفسهم بالمناضلين، إلى ادخال اسم السودان في قائمة الأرهاب وتسببوا للسودان في كثير من النكبات والكوارث الإنسانية، ولكن كل ذلك لا أهمية له في شريعتهم وقوانينهم، ما دام الهدف هو الوطن، أقصد كرسي الحكم وإن خاضوا، في سبيل ذلك، الدماء وولغوا فيها، وإن تم ذلك على أشلاء الإنسان السوداني. فعن أي وشعب يتحدثون؟ وعلى أي وطن يتباكون، وهم كالبوم والغربان ينعقون؟.

يقول أبو حيان التوحيدي في كتابه، الإمتاع والمؤانسة: “إن الفقر أوحش من الغربة، والغنى أنسٌ في غير الوطن، والغني في الغربة موصول، والفقير في الأهل مصروم”. وقال مسلمة بن عبد الملك: “الغنى في الغربة وطن، والفقر في الأهل غربة”.

وقيل لأعرابي: إنكم لتكثرون الرحل والتحول وتهجرون الأوطان، فقال: إن الوطن ليس بأب والد ولا أم مرضع، فأي بلد طاب فيه عيشك، وحسنت فيه حالك، وكثر فيه دينارك ودرهمك، فاحطط به رحلك، فهو وطنك وأبوك وأمك ورحلك. وقال أبو العرب، الذي كل ناس أقاربه وكل الأرض له وطن:

إذا كان أصلي من تراب فكلها * بلادي وكل العالمين أقاربي
ويا وطني إن بنت عني فإنني * سأوطن أكوار العتاق النجائب

ونورد، هنا، بأبيات، رائعة الحسن والجمال، للإمام الشافعي، يحث فيها الإنسان على السفر والترحل عن الأوطان وعدم الارتباط بمقام واحد:

ما في المَقامِ لِذي عَقلٍ وَذي أَدَبِ * مِن راحَةٍ فَدَعِ الأَوطانَ وَاِغتَرِبِ
سافِر تَجِد عِوَضاً عَمَّن تُفارِقُهُ * وَاِنصَب فَإِنَّ لَذيذَ العَيشِ في النَصَبِ
إِنّي رَأَيتُ وُقوفَ الماءِ يُفسِدُهُ * إِن ساحَ طابَ وَإِن لَم يَجرِ لَم يَطِبِ
وَالأُسدُ لَولا فِراقُ الأَرضِ ما اِفتَرَسَت * وَالسَهمُ لَولا فِراقُ القَوسِ لَم يُصِبِ
وَالشَمسُ لَو وَقَفَت في الفُلكِ دائِمَةً * لَمَلَّها الناسُ مِن عُجمٍ وَمِن عَرَبِ
وَالتِبرُ كَالتُربِ مُلقىً في أَماكِنِهِ * وَالعودُ في أَرضِهِ نَوعٌ مِنَ الحَطَبِ
فَإِن تَغَرَّبَ هَذا عَزَّ مَطلَبُهُ * وَإِن تَغَرَّبَ ذاكَ عَزَّ كَالذَهَبِ

ويقول أيضًا:

تَغَرَّب عَنِ الأَوطانِ في طَلَبِ العُلا * وَسافِر فَفي الأَسفارِ خَمسُ فَوائِدِ
تَفَرُّجُ هَمٍّ وَاِكتِسابُ مَعيشَةٍ * وَعِلمٌ وَآدابٌ وَصُحبَةُ ماجِدِ
وَإِن قيلَ في الأَسفارِ ذُلٌّ وَمِحنَةٌ * وَقَطعُ الفَيافي وَاِكتِسابُ الشَدائِدِ
فَمَوتُ الفَتى خَيرٌ لَهُ مِن حَياتِهِ * بِدارِ هَوانٍ بَينَ واشٍ وَحاسِدِ

وخير ختام لهذ الحديث هو قوله تعالى:

(إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) النساء: 97

اقرأ أيضاً: اقتصاد الدونات: اعادة التفكير بالاقتصاد من جديد

اقرأ أيضاً: العزلة… ملهمة المبدعين والفلاسفة

اقرأ أيضاً: الصبر وفلسفته وماذا يريد منا الله

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع اقتصاديو العرب © 2021