اقتصاديو العرب

الاضطرابات النفسية

مفهوم الاضطرابات النفسية والعقلية بين الواقع والخيال

ليس هناك من شك في أن كل منا قد مر ببعض أوقات تعتريه فيها حالات من الضيق أو الحزن أو الغضب؛ مما يؤدي إلى خمول نشاطنا البدني والذهني، فهل تعد مثل هذه الحالات اضطراباً نفسياً أو عقلياً؟؟ بالطبع لا، فالاضطرابات النفسية أو العقلية المتعارف عليها لدى أهل الاختصاص هي تلك التي تعيق الفرد إعاقة تامة عن القيام بمهامه المعتادة (اليومية)، وتسبب له الشعور بالتعاسة والضيق؛ الأمر الذي ينعكس سلباً على حياة المريض الذهنية وعلاقاته الاجتماعية؛ وهنا لابد من تدخل أهل الاختصاص لعلاج هذه الأزمة.
وإذا قورن الطب العضوي بالطب أو العلاج النفسي يلاحظ أن الأول قد ساعدته كثير من العوامل على التطور السريع منها، على سبيل المثال: أن أسباب الأمراض العضوية يمكن معرفتها من خلال الأعراض الظاهرة على المريض، أو من خلال الفحص المخبري ومن ثم تحديد الدواء المناسب، كما أن المريض العضوي يجد من يقف بجانبه ويواسيه في محنته؛ الأمر الذي ينعكس، بشكل إيجابي، على صحته الجسدية والنفسية.

اقرأ أيضاًالنشاط الاقتصادي وآلية سوق العمل، بين حرية السوق وقيود الوظيفة
أما بالنسبة لمريضنا النفسي أو العقلي فالأمر مختلف تمام الاختلاف، ففي كثير من الحالات لا يجد المريض من يقف بجانبه أو يواسيه ليخفف عنه الآلام المبرحة التي يعاني منها دون أن يشعر به أحد ممن حوله؛ لاسيما وأن الاضطرابات النفسية والعقلية ليست مما يدرك إلا من قبل المتخصصين أو قبل المريض نفسه، وقد يتعرض المريض إلى النقد اللاذع ممن يحيطون به، وهم بذلك يزيدون الطين بلة، دون وعي منهم.
ومما يزيد الأمر سوءاً وتعقيداً أن الكثير من الناس، حتى المتعلمين منهم، يجهلون الكثير عن الاضطرابات النفسية والعقلية، فكل اضطراب في اعتقادهم هو جنون؛ وفي اعتقادي، المتواضع، أن الجهل بالاضطرابات النفسية والعقلية ربما يعود إلى عدة أسباب هي :

  • الأول: ارتبط مفهوم علم النفس، في بداياته وعند نشأته في أذهان العامة، بالشعوذة والدجل والخرافة … وغيرها من المفاهيم المغلوطة التي ترفضها أذهان المتعلمين والمثقفين.
  • الثاني: الغموض الذي اكتنف هذا النوع من الأمراض، وهو عائد، في أغلب الأحيان، إلى أن الكثير من الناس، في مجتمعاتنا، يستحون من الذهاب إلى الطبيب أو الاختصاصي النفسي، بل ويتجنبون الإشارة إلى سلوك اضطرابي قد يعتريهم؛ ولا يقف الأمر عند هذا الحد بل يتعداه إلى الخجل من وجود مريض نفسي في الأسرة، باعتبار أنه أمر مشين يدعو إلى ستره وإخفائه عن الأعين، وهو أمر يدعو إلى الأسف الشديد.
  • الثالث: هناك نوع من الخلط وعدم المعرفة بعلم النفس كعلم، ليس على مستوى العامة بل على مستوى المتعلمين والمثقفين، فهناك الكثيرين ممن يخلطون بين علم النفس وأعمال السحر الشعوذة والدجل، ففي دراسة أجراها د.عمارة على عينة تمثل قطاع تجمع الطلبة بمختلف جنسياتهم ومراحلهم الدراسية في دولة الإمارات؛ اتضح أن هناك خلطاً كبيراً حول مفهوم المرض النفسي العصبي والعقلي، فجاءت النتائج على النحو التالي : 2% فقط يعرفون الإجابة الصحيحة ، 3% رفضوا الإجابة، 3% يخلطون بين الفوارق، 92% لا يعرفون معاني هذه الأمراض.
  • الرابع: يعتبر البعض، نتيجة لعدم الفهم، أن علم النفس يقوم بدراسة النفس البشرية وهو أمر بعيد كل البعد عن واقع الحال بالنسبة لعلم النفس.، لأن علم النفس يدرس السلوك الصادر عن النفس البشرية وليس النفس البشرية في حد ذاتها؛ ولذلك هناك من العلماء من يسميه علم السلوك وليست علم النفس.

اقرأ أيضاً: اقتصاد المعرفة

وحتى نخلِّص علم النفس من هذه الشوائب لابد من تقديم تعريف مبسط له، بحيث يعمل على تقديم علم النفس كعلم قائم بذاته.
علم النفس: هو علم دراسة السلوك والنشاط الإنساني في جميع صوره سواء الذي يمكن ملاحظته مباشرة، أو الذي يمكن الاستدلال عليه، وبذلك يدرس علماء النفس الأفعال، وردود الأفعال، والحركات، والألفاظ، والأفكار، والمشاعر … وغيرها من العمليات العقلية.

ويعرفه زهران: هو العلم الذي يدرس سلوك الكائن الحي، وما وراءه من عمليات عقلية، دوافعه ودينامياته وآثاره، دراسة علمية يمكن على أساسها فهم وضبط السلوك والتنبؤ به والتخطيط له.

اقرأ أيضاً: تاريخ موجز للاقتصاد المخطط

لمحة تاريخية عن الاضطرابات النفسية

تعد الاضطرابات النفسية من القدم بمكان فهي ملازمة للفرد منذ نشأته وفي جميع مراحله التي مرَّ بها حتى بلغ ما بلغه اليوم من تطور ورقي، وقد مر العلاج النفسي بالعديد من المراحل منذ أقدم العهود والعصور، كما مرَّ بالعديد من التجارب والمحاولات العلاجية الفاشلة إن لم تكن المدمرة والمخربة للنفس الإنسانية والبشرية، لاسيما وأن الإنسان لم تكن له دراية، ولو قليلة، بطبيعة المرض النفسي أو بما تتطلبه هذه الاضطرابات النفسية والعقلية من عناية خاصة، سواء أكانت هذا الاضطراب النفسي عميقاً أم سطحياً؛ لذلك حاول الناس، في أول عهدهم بهذا النوع من الأمراض، فهم المرض لإيجاد تفسير له يساعدهم في علاجه، ولكنهم حينما أخفقوا لم يجدوا سوى الجن ليلصقوا به هذا الشكل الغريب من الاضطرابات التي لم يدركوا ما تتطلبها من وعي، كما لم تسعفهم عقولهم لفهمه وعلاجه فسعوا إلى إلصاقه بالجن، إذ نجد أن الحضارات القديمة كاليونانية والرومانية والهندية … وغيرها من الحضارات قد عزت كل اضطراب نفسي أو عقلي للجن دون أن يرهقوا أنفسهم بالبحث في هذا المجال، كذلك فعل العرب في جاهليتهم فنسبوه للجن كما نسبوا الأشعار العالية الجودة للجن الذي يسكن بوادي عبقر، وجعلوا لكل شاعر شيطانه الذي يملي عليه القصائد.

كذلك نسب بعض الناس في القديم، وربما وجد أمثال أولئك اليوم أيضاً، طبيعة هذه الاضطرابات إلى غضب الآلهة؛ مما حدا بهم إلى اللجوء إلى الطقوس الدينية في المعابد التي كان يسيطر عليها رجالات الدين، والدين منهم براء، كالكهان والمشعوذين والدجالين لمعالجة الاضطرابات النفسية والعقلية، وقد ربط هؤلاء المشعوذون طبيعة المرض النفسي بالأرواح الشريرة التي تتقمص الفرد وتحتل جسده؛ مما جعلهم يمعنون في تعذيب الجسد وإنهاكه، وربما أدى ذلك التعذيب إلى الموت، وهو أمر قد يحدث في كثير من الأحيان، ومما يروى في هذا الصدد: أن بنات الملك برويتس (ملك مملكة آرجوس) قد قمن بسرقة الذهب من تمثال الآلهة هيرا التي غضبت عليهن فحلت عليهن لعنتها، فصرن يهمن على وجوههن كالوحوش في الفلاة، فقام الملك باستدعاء كاهنا معروفاً، في ذاك الزمان، يدعى ميلامبوس وهو الذي ينسب إليه شفاء هيركيوليس من مرض عقلي مشابه، فقام ذلك الكاهن بمطاردة الفتيات حتى سقطن أرضاً من شدة التعب والإعياء، ومن ثم أخذهن وغسلهن بماء باردٍ في عيون (أركاديا) فشفين من علتهن وعدن إلى حالتهن الطبيعية .
إذن فقد ارتبط مفهوم الاضطرابات النفسية والعقلية وعلاجها بغضب الآلهة والجن فما كان منهم إلا إن اجتهدوا في تعذيب المرضى بشتى الوسائل، وأحياناً قتلهم إن دعت الحاجة إلى ذلك. وتفيد بعض التقارير والإحصاءات القديمة التي وجدت أن هناك أكثر من مائة ألف مريض قد قتلوا في عهد أحد ملوك فرنسا (فرانسوا الأول)، وظلًّ هؤلاء المرضى يعيشون في ظروف مأساوية سيئة حيث كانوا يرزحون في القيود الحديدية ويعيشون في غرف لا ضوء فيها ولا تهوية جيدة، كما كانوا يتناولون أسوء الطعام، هذا إن وجد، ومن سخرية القدر أن يزيد من تعاستهم حينما تعدى الأمر إلى أسوء من ذلك فأصبحت أماكن أولئك المساكين مكاناً للنزهة كحدائق الحيوان في يومنا هذا.

اقرأ أيضاًقصة كتاب: البجعة السوداء “تداعيات الأحداث غير المتوقعة”

– الفرج :
وظل أمر أصحاب تلك العاهات على ذلك النحو حتى قيض الله لهم الفرج على يد أحد الأطباء الفرنسيين الذي عمل على فك أغلالهم وقيودهم كما عمل على إخراجهم من تلك الغرف المظلمة التي كانوا محبوسين داخلها، وشرع ذلك الطبيب في تحسين أوضاعهم المعيشية بإطعامهم ومعاملتهم المعاملة الإنسانية اللائقة والكريمة؛ مما ساعد في تحسن الكثير من الحالات وشفاء العديد من الحالات.

– أثر البيئة
لقد لعبت البيئة دوراً بارزاً في صناعة وتشكيل سلوك الفرد، والتالي أسهمت البيئة في بناء الموروثات الاجتماعية منذ أقدم العهود؛ من هنا يمكن القول بأن للبيئة أثرها الفعال في العلاج النفسي إذ يرتبط العلاج النفسي ارتباطاً وثيقاً بالبيئة التي ينشأ ويترعرع فيها الفرد، أو يعيش في كنفها لفترات مديدة من سنوات عمره.

تنقسم البيئة إلى أنواع أو أقسام متباينة، ولكنها، في ذات الوقت، تصب في مجرى واحد وهو الإنسان:

  • البيئة الاجتماعية: وهي تتشكل من أفراد المجتمع الذي ينتمي إليه الشخص (أفراد الأسرة، القبيلة أو الحي، المدرسة، العمل، الأصدقاء والمعارف … وغيرهم من الأفراد الذين يحيطون بالشخص ويحتك بهم خلال ممارسته لنشاطه المعتاد طوال حياته).
  • البيئة الثقافية: هي مجموعة القيم والأخلاق والمورثات التي يتلقها الفرد منذ نشأته الأولى في بيئته الاجتماعية، وهي تشكل الجانب السلوكي و المعرفي والأخلاقي والروحي (الدين أو العقيدة) وهذه المفردات عي التي تلعب دوراً فعالاً في معرفتنا بالحلال والحرام، الخطأ والصواب، الحق والباطل، الفضيلة والرزيلة … وتعد البيئة الثقافية بمثابة الركيزة أو الأساس الذي يقوم عليه البناء النفسي للفرد، كما ينبني عليه تكوين السمات الشخصية لكل فرد فيما بعد، مما يجعل لكل منا شخصيته الخاصة به، والمميزة له.
  • البيئة الاقتصادية: يقول كثير من الاقتصاديين (إن المال يشكل عصب الحياة) وهي مقولة لا يمكن لعلم النفس أن يهملها؛ لذلك اهتم اختصاصيو العلاج النفسي بالأثر الذي تصنعه البيئة الاقتصادية؛ إذ للجانب الاقتصادي أثره وتأثيره الظاهر والبين، سلباً أو إيجاباً، في حياة كل إنسان، كما أن يلعب دوراً مهماً في تحديد سلوك الإنسان من خلال الدور الذي يقوم به في إطار بيئته الاجتماعية.
  • البيئة السياسية: نستطيع القول بأن البيئة السياسية تعلب دوراً لا يستهان به في بناء المجتمعات وتشكيل العديد من سماتها الثقافية والفكرية والسلوكية والتربوية …، ويتم كل ذلك من خلال تحكم الدولة (السياسة) وسيطرتها على التعليم، ومن خلال بناء المناهج الدراسية، وأيضاً بما تفرضه من قوانين صارمة لتضبط بها نشاطات الفكرية التي تمارسها وسائل الثقافة والإعلام (صحافة، إذاعة، تلفزيون، سينما، مسرح، دور العبادة … ).
  •  البيئة الجغرافية: ونعني بها طبيعة الإقليم أو المنطقة من حيث السطح والتضاريس؛ إذ تختلف طبيعة سلوك سكان البادية عن سكان المدينة، من حيث أسلوب المعيشة، كذلك هناك اختلاف بينٌ في السلوك بين سكان المناطق الصحراوية والجبلية وبين سكان المناطق السهلية المنبسطة، إذ يمتاز سكان المدن والمناطق السهلية الزراعية والتجارية والصناعية … برخاوة العيش وسهولة الحياة؛ بينما يتميز سكان البوادي والصحاري والجبال بالخشونة والصرامة والقسوة في عيشهم، مما ينعكس على بنائهم النفسي وعلى سلوكهم في شتى مجالات الحياة (عادات ، تقاليد ، موروثات…).

اقرأ أيضاً: استشراف المستقبل

من الملاحظ في هذه البيئات الأربعة أنها تقوم على مبدأ أو فكرة التأثير والتأثر المتبادل بين بعضها البعض ليصب كل ذلك في تكوين شكل واضح ومميز لصورة كل مجتمع من المجتمعات الإنسانية؛ وذلك من خلال التأثير البيئي على سلوك الفرد، مما أدي إلى بروز سمات مشتركة ومتشابهة بين عناصر كل المجتمع الأمر الذي ساعد في تكوين الشعوب، كما ساعد على نشأة الحضارات التي قدمت الكثير للمعرفة والعلوم الإنسانية؛ فكان من نتاج ذلك ازدهار نشاط الحركة العلمية التي انتظمت العديد من دول العالم، فبرز علم النفس إلى حيز الوجود ليسهم بدوره في حل وعلاج العديد من الأزمات النفسية التي تجابهنا طوال مسيرتنا في هذه الحياة، مما يجعلنا في حاجة ماسة لمثل هذه النوع من المعارف التي تفتق عنها ذهن الإنسان وعقله ليواكب التطور والتقدم المعرفي والعلمي بروح عصرية متفائلة وعقل متفتح؛ مما سيسهم بدوره في حل طلاسم الحياة التي نعيشها فكلما واجه الشخص الأزمات التي تعترض مسيرته بصدر منشرح وقلب واع ومتفائل تفتحت أمامه العديد من مدارك التفكير المبدع والخلاق، ولن يتمكن الشخص من بلوغ تلك الدرجة السامية إلا من خلال التوافق والتواؤم مع البيئة بمختلف أشكالها ومتطلباتها؛ لذلك نجد أن المعتقدات والأديان تحض الفرد على التمسك بمبادئ الجماعة والسير في رحابها من خلال ما يقدمه الفرد للجماعة من رأي وفكر وما تقدمه له الجماعة من ود ومحبة، كما جاء في الصحيح المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا وشبك بين أصابعه وفي الصحيح أيضا مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر (تفسير ابن كثير ج2/ص370). وفي الإنجيل : (من ضربك على خدك الأيسر فأدر له خدك الأيمن ) كناية عن بث روح المحبة والتسامح بين البشر، وقد اهتبل علماء النفس والاجتماع وحتى الأطباء هذه النصيحة وصاروا يقدمونها لكل شخص في المجتمع يريد أن يتصالح مع نفسه ويتوافق مع مجتمعه فيعيش في سلام داخلي وخارجي .

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع اقتصاديو العرب © 2021