اقتصاديو العرب

النشاط الاقتصادي وآلية سوق العمل، بين حرية السوق وقيود الوظيفة

النشاط الاقتصادي وآلية سوق العمل، بين حرية السوق وقيود الوظيفة

عندما قدم المستعمر إلى بلادنا وجد لدينا القليل من الزراعة، فقط ما يكفي المئونة، ووجد عندنا الشئ اليسير من التجارة، ولا صناعة لدينا سوى بعض الحرف والمهارات اليدوية البسيطة، ولم يكن المجتمع، في ذاك الزمن، يعرف شيئاً عما يسمى بالوظيفة وطبيعتها الروتينية والتي تتطلب الانتظام في سلك التعليم الذي يسلمك، من بعد، إلى سلك الوظيفة، وبما أن مجتمعاتنا لم تعرف التعليم النظامي المرتبط بالتوقيت الزمني اليومي والتقويم السنوي من حيث السنوات؛ فقد كنا أحراراً، بكل ما يحمل هذا اللفظ من معاني الحرية المطلقة من قيود العبودية والاسترقاق الوظيفي، فسعى المستعمر إلى أن يقيد حريتنا ويكبل حركتنا، فأتانا بأول حلقة من حلقات السلسلة الحديدية، التي لا فكاك من مخالبها ولا انعتاق من براثنها الحادة، ألا وهي التعليم النظامي الذي يدفع بالمتعلم إلى الترقي في درجات السلم الوظيفي.

وهي الحلقة الثانية من حلقات سلسلة العبودية والاسترقاق الذهني والإرهاق العقلي والبدني، حيث تمثل الوظيفة، لمن يحصل عليها، طوق النجاة في محيط متلاطم الأمواج دون أن يدري أنه يسعى بظلفه إلى حتفه، فالوظيفة تعمل على برمجة عقل الموظف ليحافظ على النظام الروتيني وكأنه ساعة إلكترونية تؤدي وظيفتها بشكل آلي تلقائي، لقد سلبت الوظيفة من الموظف القدرة على التفكير، إلا في إطار وظيفته، وحنطت فيه النشاط العقلي فلم تعد لدى دماغه قدرة على القيام بالعمليات العقلية الادراكية من؛ انتباه، ادراك، تفكير، تركيز، تحليل، مقارنة، استنباط..، وغيرها من الأنشطة الذهنية المتعلقة بالقدرة على تطوير الذات وبناء المجتمع.

اقرأ أيضاً: ريادة الأعمال: المفهوم، والأهمية، ولماذا يصبح الناس رواد أعمال؟

ولكن السؤال المطروح هو، أليست التعليم نعمة! ونعمة كبرى؟!!

نعم التعليم نعمة بل يمكن القول بأنه النعمة التي لا نعمة فوقها ولا بعدها نعمة، ويكفي القول بأن الإسلام قد دفع الناس إليه وحثهم وشجعهم عليه بكل المغريات؛ يقول تعالى:

(إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) فاطر: 28.

(هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) الزمر: 9.


ويقول رسولنا الكريم، عليه أفضل صلاة وأتم تسليم،

(العلماء ورثة الأنبياء)

وكفى بمثل هذ القول من درر الكلام وكنوز المعرفة من المغريات مثلاً ونموذجاً يحتذى.

اقرأ أيضاً: اقتصاد المعرفة


نعم كل ذلك صواب بل وفوق ما يرجوه العقل من الصواب والادراك؛ ولكن بشرط أن يكون الغرض الرئيس والهدف الأساسي من التعلم هو العلم والمعرفة ولا شئ غير العلم والمعرفة، أي يجب أن لا نقرن التعليم بالوظيفة والمرتب (المكافأة المادية)، وأن لا يكون الغرض من سنوات التعليم هو أن نضع الحواجز أمام نفثات العقل وأن نقيد الأيدي ونكبل الأرجل، فعندما شعر الإمام الغزالي بقيود الوظيفة حرر نفسه من مخالبها، وهو قائل القولة الشهيرة :

(طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله)

والعلم لا يُعطِيك شطره، أي الجزء اليسير من مكنون أسراره، حتى تُعطَيه جميع جهدك وتمنحه كل تفرغك، فهو لا يحب أن يكون له شريك في قلوب عشاقه وأفئدة محبيه، فإما أن يكون هو السيد المطاع أو لا شئ غير ذلك، فهو كما قال زعيم شعراء العربية، أبو الطيب المتنبي:

إذا غامرت في شرف مروم * فلا تقنع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر صغير * كطعم الموت في أمر عظيم

إذاً فقد كبلنا المستعمر بقيود التعليم النظامي وأخضعنا لذل الوظيفة ومهانتها وفي المثل العامي السوداني (بيع واشتري ولا تنكري) أي (بِعْ واشترِ ولا تَنْكَرِ)، أي أعمل بالتجارة في الأسواق التجارية ولا تكن موظفاً تنتظر المرتب في آخر الشهر والمكافأة في آخر العمر.


عندما حضر المستعمر كنا في العتبة الثالثة من سلم التطور الإنساني وهي:

  1. جمع الثمار.
  2. الزراعة.
  3. التجارة.

ولم نبلغ بعد العتبة الرابعة وهي عتبة الصناعة التي كانت ستنقل مجتمعاتنا إلى العالم المتحضر، ففي الصناعة تتجمع كل عناصر التطور الاقتصادي، ففيها يتم تحويل الموارد الطبيعية والمنتجات الزراعية والحيوانية الخام إلى مواد استهلاكية يحتاج إليها الناس في جميع مجالات الحياة المعيشية؛ الأمر الذي سيسهم في تطور الشعوب والأمم، ومن الأمثال العامية (الصنعة في اليد أمان من الفقر)، ويقولون (تعلم المهنة واتركها)، ولكن القدر عاجلنا بقدوم المستعمر الذي كان قد بلغ العتبة الرابعة من سلم التطور وهي الصناعة، وأصبح في أمس الحاجة للموارد الطبيعية والمواد الخام لكي يتمكن من دفع عجلة الصناعة وتأسيس النهضة الاقتصادية؛ فيمم وجهه تلقاء بلادنا باحثاً عن المواد الخام والأيدي العاملة الزهيدة التكلفة، فحقق نهضته الاقتصادية والعمرانية والحضارية الفكرية ..، على حساب الشعوب المستعمَرة.

والكل يعي ويدرك أن الاقتصاد يمثل عصب الحياة الإنسانية وأبرز مقومات الحياة الاجتماعية، والشئ الملاحظ في النشاط الاقتصادي العالمي أن ثلاثة من أكبر اقتصادات العالم، والتي قد لا تملك من المواد الخام شيئاً، ولكن حركة الاقتصاد العالمي جميعها في قبضتها فهي تتحكم فيه بيد من حديد وتديره بكثير، إن لم يكن بكل، حرية. والدول الثلاثة هي: ألمانيا وبريطانيا، واليابان، والناظر للدولتين الأخيرتين لا يرى فيهما أكثر من جزر صخرية، ورغمًا عن ذلك، تسيطر على حركة الاقتصاد العالمي بقوة العقل الابداعي والفكر الابتكاري الخلاق ذلك الدماغ الذي انعتق من براثن الوظيفة فلم تعد تمثل له صداعاً يشتكي من آلامه المرهقة.

اقرأ أيضاً: استشراف المستقبل

ولكننا اليوم، في دول العالم الثالث، نعاني أمر المعاناة وأشدها من جراء ذلك الكم الضخم من الجيش المترهل الجسم والمسمى بالموظفين، فهم يمثلون الهم الأكبر والعبء الأثقل على كاهل الدولة وميزانيتها المتخمة بالعقول العتيدة والمهرقة للمواطن والمتعطلة والمعطلة لحركة دولاب العمل، فالكثير من الموظفين لا يمثلون سوى جيش عرمرم من المتسكعين والمتعطلين عن العمل الذين يستنزفون كل موارد الدول النامية بما يصرفونه من رواتب وعلاوات وحوافز وبدلات ومعاشات … وغيرها مما يرهق ميزانيات الدول ويثقل كاهلها، يقول المثل العامي (جابوه فزع بقى وجع)؛ وأسوأ ما في السلوك الوظفي أنه يمنع الموظف من النمو الفكري والتطور العقلي، فهو أشبه بثور الساقية يدور، طوال الوقت، في حلقة مفرقة دون الشعور بالوقت إلى أن تحين سن التقاعد المعاشي، عندها يدرك، ولكن بعد فوات الأوان، أن سنوات العمر قد مضت دون ما إنجاز حقيقي.

اقرأ أيضاً: النظام الاقتصادي الاسلامي- نظرة عامة


من المعروف أن آدم سميث (1723-1790م)، أبو الاقتصاد ومؤسس علم الاقتصاد الرأس مالي من خلال مؤلفه، ثروة الأمم قد عمل، في بداية حياته، معلماً خاصاً، وقد اعتمد على صهر تلميذه على طبع كتابه، الذائع الصيت والشهرة، ” بحث في طبيعة ثروة الأمم وأسبابها” الذي ملأ الدنيا بفكرة الاقتصاد الحر القائم على حركة انسياب السلع وتدفقها والمعتمد على آلية السوق أي (نظرية العرض والطلب) التي تتحكم في ضبط حركة النشاط الاقتصادي والتجاري دونما تدخل من أحد؛ مما يدلل على أن سميث كان صاحب عقل متقدم جعله يخرج من سجن الوظيفة الضيق وينعتق من قيودها المكبلة لحرية العقل، فخلد اسمه بمداد من نور وأحرف من ذهب في سفر الخالدين.

اقرأ أيضاً: تطور التكنولوجيا والاقتصاد

 

وعلى العكس من سميث كان كارل ماركس (1818-1883م) مؤلف كتاب “رأس المال” والذي دعا فيه إلى كبح جماح النشاط الاقتصادي وتكبيل حرية الحركة التجارية في الأسواق، ومن أبرز أفكاره، اللاعقلانية، أنَّ الاشتراكية أمر حتمي، وأنَّ النظم الرأسمالية إلى زوال ومَحْكُوم عليها بالفشل، ولكن بعد مرور السنوات وتتابع العقود تأكد لعلماء الاقتصاد ولجميع الأمم والشعوب، فشل تلك المقولة وعقم أفكار صاحبها، فقد تهاوت نظام الاقتصاد الاشتراكي بعد مضي أقل من ربع قرن من بدايتها مع الثورة البلشفية في السوفيتي (191م) وتفككه (1989م)، ومن ثم انفرط عقد الأنظمة الاقتصادية الاشتراكية لتنضم إلى ركب الاقتصاد الحر، وليت ماركس، ذلك المتسكع الذي عاش عاطلاً بلا عمل وكان يعيش، هو وأفراد أسرته السبعة، عالة على صديقه الألماني إنجلز، ليته يبعث اليوم من البلى ليرى، بأم عينه، مصير أفكاره البالية وكيف أنها وضعت في مزابل التاريخ.

اقرأ أيضاً: تاريخ موجز للاقتصاد المخطط


وخلاصة القول هي أن حرية العمل أفضل ألف مليون مرة من قيود الوظيفة، وإن لم يكن من بد من الوظيفة فاليكن ذلك إلى أمد قريب لا يطول، فإن طال فسيستمر الشخص عيش العبودية ورقها الذي لا سبيل إلى الخلاص منه إلا بالموت أو سن التقاعد المعاشي، تلك السن التي يتمنى أي موظف أن لا تأتي على الاطلاق، وربما اضطر إلى التزوير والغش، في شهادة ميلاده، ليطيل من سني بقائه في الرق الوظيفي الذي استمرأه وألف عبوديته؛ يقول المتنبئ:

خُلقت ألوفاً لو رحلت إلى الصبا * لفارقت شيبي موجع القلب باكيا

جميع الحقوق محفوظة لموقع اقتصاديو العرب © 2021