اقتصاديو العرب

العزلة ...ملهمة المبدعين والفلاسفة

العزلة …ملهمة المبدعين والفلاسفة

يهتم المبدع بالبيئة التي تصنع نجاحاته، وتحسن أساليب ممارساته الفكرية، وتجعله في الصدارة، وتمنحه مكانة لائقة بشخصيته، فمهما كثرت التحديات التي تحيط به فقد منحه الله قدرة فطرية مرنة، وقادرة على البحث، والاكتشاف، والاختراع، وفى الوقت الذى لا يمكن لأهداف المبدع أن تعمل منعزلة عن واقع الحياة من حوله أو تتطور بعيدا عن مجتمع إنساني، متكامل، ومتعاون، إلا أنه يستطيع أن يختار الزمان، والمكان، والوسائل، والأساليب التي ينتج من خلالها أفكارا للتفاؤل والسعادة والإيجابية، والحياة.

اقرأ أيضاً: الصبر وفلسفته وماذا يريد الله منا

اقرأ أيضاً: السلوك الانساني بين الأنس الاجتماعي والتوحش الانعزالي

يحدث في أيامنا العادية أن نكون سعداء بتواصلنا مع الآخرين وجها لوجه وقد تؤدى عزلتنا عن ضجيج الحياة إلى بعض الشعور بالملل، لكن العزلة في أجواء الإرادة والطموح تشحذ التفكير الإبداعي وتسمو بالذات لآفاق جديدة، فللعزلة الإبداعية مفاتيحها وأسرارها وعوامل إيجابيتها التي تمكنها من تنمية الحس الإبداعى لدى العلماء، والفكرين، والفلاسفة، والمثقفين.

فالعزلة التي تقدم الحياة الفكرية الصافية للمفكر الثقف صاحب التطلعات الإبداعية القوية لا تنتج السلبية بل تنتج الوعى التفكيرى الإيجابي المستقل الذى يميز المفكر، ويعزز إنتاجه لأفكار جديدة، ويقوى تميزه الشخصى وفاعليته، فهذه العزلة قد ألهمت كثيرا من الفنانين، والمبدعين، والمبتكرين، والفلاسفة، وذلك عندما يتمتع المبدع بصحة سليمة ووسط هادئ، وذهن بارع، ووله شديد بالمعارف الجديدة.

فالعزلة ليست هروباً من الحياة، بل رحلة إليها، ومهارة معرفية عالية لا يتقنها كل البشر، ومدرسة التأملات، حيث يجلس الإنسان مع نفسه لمراجعة الذات والعلاقات، والمشروعات، والأفكار، فهى عالم من التجديد وتصويب المسارات عندما تتولد الرغبة الفطرية عند الإنسان ليقوى إرادته، وينهض بعقليته، ويضع خططاً جديدة لحياته المعرفية، وآثارها في الحاضر والمستقبل وقد كان نيوتن يصوغ نظرياته سراً ولا يعلن عنها إلا بعد التثبت من اكتمالها وصحتها بنسبة 100 في المئة.

عندما يشعر الإنسان بعبثية اللحظات التي يعيشها، فمن الطبيعى أن يلتقى مع نفسه، ويصعد للحظة أقوى من الهدوء الانعزالى، ويتقن استثمار العزلة، بالاستفادة من جهود العلماء والخبراء والمدربين الذين يشاركون في تطوير الحياة بشكل يومى، فعزلة (كورونا ) التي حرمتنا من أشياء كثيرة وجميلة أتاحت لنا الفرصة الواسعة لنقوم برحلة في أعماق ذاتنا وأن نوفر لأنفسنا لحظات جديدة من المتعة والسعادة، والتعلم، والتعليم لا ترتبط بالاجتماعات والسهرات والحفلات والجولات المتعددة.

يستطيع الإنسان في أشد الأوقات ابتعاداً عن الأصدقاء والأحباب أن يوفر لنفسه فرصة واسعة من التفاهم النفسي الداخلي من غير أن يسقط فريسة لليأس أو التشاؤم أو يفقد مصادر إلهامه، أو يتخلى عن سماته الفكرية كما أنه يستطيع أن يحول أفكاره التي بناها في عزلته لإنجازات وأعمال إبداعية .

عندما تكون صديقا لذاتك فإنك تستطيع أن تقوى معرفتك بأحاسيسك ومشاعرك فتصبح مومنا بقدراتك، وأشواقك ولن تنظر للعزلة بمنظار اللون الأسود، فمحبة العزلة ومحبة التعايش الفكرى الروحى معها تعتبر اختياراً متميزاً ينمى الفكر، والفن، ويسمح بالتزود من خبرات الأفراد والدول، وتفاعلاتها التنموية والإبداعية المتجددة، والتعامل الصحي مع كل جديد، فتصبح حياتنا متوازنة، نقضيها أحياناً مع الأفراد والمؤسسات ومع أنفسنا – أيضاً – فنضبط محيطنا الثقافي والمعرفي، ضبطاً ثقافياً وجمالياً، فالعزلة في هذه الحالات لن يكون لها آثار سلبية ولن تؤثر سلباً على نفسية الإنسان أو تؤدى إلى اضطراب وجدانه أو اختلاط مداركه.

ومما قيل في ذلك: (إن الثرثرات تسرق الوقت كله، بينما المتعة الخاصة هي أن تحتسى فنجان قهوتك بدون ضجيج، في حديقة أو شرفة أو بجوار نافذة، وأنت تصغى إلى زقزقة عصفور أو حفيف سعف نخلة).

يضيع الإنسان حينما يقضى حياته كلها في علاقات تتطور يوما بعد يوم وتلهينا عن النظر في أنفسنا، وتدبر أهدافنا، ومراجعتها، وتحديثها وتطويرها لتتلائم مع عمق تخطيطنا الإبداعي، فتعلو مراتبنا في البحث والتعلم، وتتسع رؤيتنا للإنسان والعلاقات، والحضارة، دون أن نهمل تأدية واجباتنا العملية والاجتماعية .

اقرأ أيضاً: الضمير الحي بين الله والانسان

فالروح المختلية تعود حياتها لمجاريها الطبيعية، وتتحرر من ضغوط الحياة وانفلاتها، وتنعم بحياتها، فالعزلة الفكرية المبدعة ليست من سخط الله، بل من رضوانه، وإن آلام العزلة لتهون عندما نتمكن من استئناف اكتشاف أسرارنا الذاتية، ورسالتنا المعرفية، وكأننا في عبادة روحية ممتعة تستشرف كثيرا من العطاءات المستقبلية.

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع اقتصاديو العرب © 2021