اقتصاديو العرب

الضمير الحي

الضمير الحي بين الله والإنسان

طافت بذهني الكثير من الأفكار والرؤى العقلية حين تذكرت المثل الصيني المعروف الذي يقول (الضمير الحي/الخالي، وسادة ناعمة) فأحببت أن تشاركني فيها ـ أيها القارئ العزيزـ.

فمن أراد أن ينعم بنوم هادئ خال من الأحلام المفزعة والكوابيس المزعجة، على وسادة ناعمة، فعليه أن يعتني بضميره وينقيه من الأحقاد والإحن والضغائن ليتمتع براحة الضمير، وإذا تأمل الإنسان نفسه وما تقوم به من أعمال الخير يجدها نابعة من بين ثنايا الضمير الحي.

ونحن إذا أردنا أن نعرف ماهية الضمير الإنساني صعب علينا ذلك لأن الضمير أرفع وأسما مكانةً من أن تدركه عقول البشرية، فهو أرقى وأعلى ما يمكن أن يصل إليه مخلوق من صفاء النفس وسمو الروح، ولا يتمتع بهذه الدرجة العالية الرفيعة إلا الرسل، عليهم صلوات الله وسلامه، لأنهم هم من أوكل الله تعالى إليهم مهمة إيقاظ الضمير من سباته.

وبهذا يمكننا أن نقول إن الضمير هو: مجموعة القيم النبيلة والأخلاق السامية التي تنطوي عليها قلوبنا وعقولنا منذ النشأة الأولى والموجودة فينا بالفطرة السوية السليمة وهي فطرة الناس التي فطر الناس عليها؛ يقول تعالى:

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) الروم: 30.

من هذا المنطلق بإمكاننا أن نضيف إلى تلك التعاريف العديدة، تعريفاً آخر للإنسان لكي نميزه عن غيره من المخلوقات، وهو (الإنسان كائن له ضمير) وبذا يكون الإنسان أقرب للكمال كلما تمتع بضمير حي يقظ لا ينام عن ذنب اغترفه أو يزدريه مهما كان ذلك الذنب حقيراً أو ضئيل الشأن، فمن أراد أن يكون إنساناً حقاً فعليه أن يستعصم بالضمير الحي الخالي من كل الشوائب والأدران وقد ورد في مسند أحمد بن حنبل ج4/ص228 قول نبينا الكريم، عليه أفضل صلاة وأزكى تسليم،:

( … يا وابصة مرتين أو ثلاثاً قال: فدنوت منه حتى قعدت بين يديه فقال: يا وابصة أخبرك أو تسألني، قلت: لا بل أخبرني. فقال: جئت تسألني عن البر والإثم، فقال: نعم فجمع أنامله فجعل ينكت بهن في صدري ويقول: يا وابصة استفت قلبك واستفت نفسك، ثلاث مرات، البر ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك)

صدق معلم البشرية وهادي الإنسانية من محدث.

والضمير اليقظ هو أشبه شئ بشهاب أو فيض من النور الرباني يقذفه الله في القلب المفعم بالإيمان والعامر بحب الخير للإنسانية؛ لذلك نجد أن الله تعالى قد بعث لنا بخاتم الرسل والأنبياء محمداً نبياً رسولاً ومعلماً للبشرية وهادياً للإنسانية؛ يقول تعالى:

(وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُون) سبأ: 28.

ليوقظ في كل قلب ميت الحس والشعور الذي خمد وكاد يموت في الصدور؛ يقول تعالى:

(أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) الأنعام: 122.

إن المتأمل لموقف الفرد أو الجماعة من الإيمان بالله .. يجد الناس على أضرب ثلاثة في هذا الشأن. فمنهم من يعبد الله خوفاً من عقابه الموعود، ومنهم من يعبده طمعاً في ثوابه وما وعد به من جنات تجري من تحتها الأنهار .. أما الضرب الثالث فيعبده محبة وشوقاً لا خوفًا وطمعًا، لأنه يستحق أن يعبد لذاته، لا خوفاً من عقابه ولا طمعاً في ثوابه، وفي ذلك تقول رابعة العدوية:

اللهم إنك إن علمت أنني أعبدك طمعاً في جنتك فاحرمني منها، وإن علمت أنني أعبدك خوفاً من نارك فاحرقني بها.

وتقول أيضاً:

أحبك حبين حب الهوى * وحب لأنك أهل لذكا
أما الذي هو حب الهوى * فشغلك لي عمن سواكا
أما الذي أنت أهل له * فكشفك للحجب حتى أراكا
فلا الفضل في ذاك لي* ولكن لك الفضل في ذا وذكا

أما أعظم شعراء الوجدان الصوفي وسلطان العشقين، بلا مدافع، فهو (عمر بن الفارض) الذي أفنى نفسه في العشق وأذابها في هوى من أحب، وجداً وحباً، وهو المتيم بالعشق الإلهي، يقول ابن الفارض:

يا لائماً لامني في حبهم سفهاً * كف الملام فلو أحببت لم تلم

واستمع إليه وهو يقول مناجياً الحبيب، وقد كان مجاوراً للبيت الحرام بمكة المكرمة:

يا سجيري روِّحْ بمكة روحي * شادياً إن رغبت في إسعادي
كان فيها أنسي ومعراج قدسي * مقامي المقام والفتح باد

ومما يروى عن الإمام أبي حامد الغزالي: أن أحدهم قد التقى به في البرية (الخلاء) وهو يرتدي مرقعة ويحمل في يده ركوة ماء (أشبه بالإبريق) وعصا يتوكأ عليها، فقال له: أيها الإمام أليس تدريس العلم ببغداد أفضل من هذا الذي أنت فيه الآن؟ فنظر إليه الغزالي وأنشد قائلاً:

تركت هوى ليلى وسعدى بمعزل * وعدت إلى مصحوب أول منزل
ونادت بيَ الأشواق مهلاً فهذه * منازل من تهوى رويك فانزل

إن الإمام الغزالي رجل جمع بين الاهتمام العلم في أول عهده، وبين التصوف في آخر سنوات عمره العامر بكثير من ألوان المعرفة العقلية والوجدانية.
وأعلم قارئي الكريم وكن على يقين تام من أن الله، جلَّ وعلا، لا يقبل الرشوة أي أنه لا يعمل بالمقابل؛ لأن الله خير كله؛ يقول العابد المتصوف:

فمن صلى وصام لأمر كان * يقصده فلا صلى ولا صامَ

واعلم أنك تعمل من أجل نفسك لا من أجل الله، تبارك وتعالى علواً كبيرا عن الحاجة إلى صلاتنا وصيامنا … وغير ذلك مما نقوم به من أعمال؛ يقول تعالى:

(إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ) الزمر: 41.

وقال تعالى:

(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) فصلت: 46.

وقال تعالى:

(مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ) الجاثية: 15.

وفي الحديث القدسي الوارد في صحيح مسلم 2577 يقول الله تعالى:

(يا عبادى لو إن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادى لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادى إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).

إنها حياة السمو الروحي والعقلي في أرقى وأسما معانيها؛ لأنها ترتقي بمشاعر الفرد وتسمو بأحاسيسه الوجدانية التي تغمر قلب الإنسان وتملأ صدره بالإيمان في كل لحظة فيظل عامراً بالخير الكثير يتدفق ويفيض حتى على شانئيه من الناس فهذا القلب الصافي مثل بحر لا تكدره الدلاء (جمع دلو)، ولا يعرف الحقد ولا الكراهية طريقاً إليه؛

يقول تعالى:

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ) إبراهيم: 26.

وتقول الحكمة: (كن كشجرة الصندل تعطر فأس قاطعها)، أو كن كشجرة النخيل ترمى بالحجر فتنفح بأطيب الثمر.

اقرأ أيضاً: كيف نشأت الفلسفة في بلاد المسلمين

يقول الشاعر:

كن كشجر النخيل عن الأحقاد مرتفعاً * يرمى بالحجر فيرمي أطيب الثمر

ويقول آخر:

أصبر على حسد الحسود فإن صبرك قاتله * كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله

جميع الحقوق محفوظة لموقع اقتصاديو العرب © 2021