اقتصاديو العرب

اقتصاديو العرب: التنمية المستدامة

التنمية المستدامة- الجزء الأول

كان أول ظهور لمصطلح التنمية المستدامة في تقرير لجنة (برونتلاند) والذي فيه تمت صياغة أول تعريف للتنمية المستدامة على أنها التنمية التي تلبي الاحتياجات الحالية الراهنة دون المساومة على قدرة الأجيال المقبلة في تلبية حاجياتهم.

ومن ثم شهد مفهوم التنمية المستدامة تطوراً كبيراً منذ بداية الستينات من القرن الماضي إلى اليوم، ففي عقد التنمية الأول الذي تبنته الأمم المتحدة من عام 1960 الى عام 1970، اقترن مفهوم التنمية المستدامة بالنمو الاقتصادي، مثل الدخل القومي والدخل الفردي.

وفي العقد الثاني للتنمية من عام 1970 الى عام 1980، اكتسب مفهوم التنمية أبعاداً اجتماعية وسياسية وثقافية، بجانب البعد الاقتصادي.

وخلال عقد التنمية الثالث من عام 1980 الى عام 1990، اكتسب مفهوم التنمية بعداً حقوقياً وديمقراطياً يتمثل في المشاركة العامة في اتخاذ القرارات التنموية الخاصة بالحكم الرشيد.

أما عقد التنمية الرابع منذ عام 1990 فقد شهد نقلة نوعية في مفهوم التنمية، حيث تأكد مفهوم التنمية المستدامة بشكل واضح في إعلان (ريو) لعام 1992 الذي تضمن مبادئ تدعو إلى ضرورة تحقيق العدالة بين الأجيال في توزيع الموارد الطبيعية.

اقرأ أيضاًاقتصاد الدونات: اعادة التفكير بالاقتصاد من جديد

تعريف التنمية المستدامة

تتعدد التعاريف بالنسبة للتنمية المستدامة، نذكر أهمها:

تعريف مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي للتنمية المستدامة (جيمس سبيث) في تقريره “مبادرة من أجل التغيير” بأنها:

” تنمية لا تكتفي بتوليد النمو وحسب، بل توزيع عائداته بشكل عادل أيضاً، وهي تجديد البيئة بدل تدميرها، وتمكين الناس بدل تهميشهم، وتوسيع خياراتهم وفرصهم، وتأهيلهم للمشاركة في القرارات التي تؤثر في حياتهم، إنها تنمية لصالح الفقراء والطبيعة و المرأة و تستند على النحو الذي يحافظ على البيئة، وهي تنمية تزيد من تمكين الناس وتحقيق العدالة فيما بينهم”.

كما تعرف التنمية المستدامة بأنها:

“مسار قائم على المشاركة و رشادة الحكم الديمقراطي للخيارات المجتمعية المشتركة”.

وأيضاً عرفت منظمة الأمم المتحدة للأغذية و الزراعة التنمية المستدامة بأنها :

“إدارة وحماية قاعدة الموارد الطبيعية، والتغيير المؤسسي لتحقيق واستمرار و إرضاء الحاجات الإنسانية للأجيال الحالية والمستقبلية، بطريقة ملائمة من الناحية البيئية ومناسبة من الناحية الاقتصادية، ومقبولة من الناحية الاجتماعية، كما أنها عملية مستمرة تعبر عن احتياجات المجتمع وتقوم على مبدأ العدالة والمشاركة العامة، ورشادة استخدام الموارد الطبيعية والمحافظة على حقوق الأجيال المستقبلية، واتخاذ تحولات هيكلية في الإطار السياسي و الاجتماعي والاقتصادي، والتمكين لآليات التغيير وضمان استمراره.”

اقرأ أيضاًالاقنصاد الدائري والابتعاد عن الاقتصاد الخطي

ظهور مصطلح التنمية المستدامة

كان الاعتقاد السائد لدى كل من الدول النامية والصناعية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بأن الموارد موجودة بشكل غير محدود في الطبيعة، وتم التعامل معها على أساس أنها بضائع حرة وليس لها قيمة، مما شجع على استغلال هذه الموارد وإهدارها أكثر فأكثر.

انعقدت قمة الأمم المتحدة حول البيئة البشرية بمدينة ستوكهولم عام 1972، حيث ناقش هذا المؤتمر للمرة الأولى القضايا البيئية وعلاقتها بواقع الفقر وغياب التنمية في العالم، وتم الإعلان على أن الفقر وغياب التنمية، هما أشد أعداء للبيئة، ومن ناحية أخرى انتقد هذا المؤتمر الدول والحكومات التي لا زالت تتجاهل البيئة عند التخطيط للتنمية.

وكان من نتائج هذا المؤتمر صدور أول وثيقة دولية تتضمن مبادئ العلاقات بين الدول، والتوصيات التي تدعوا كافة الحكومات والمنظمات الدولية لاتخاذ التدابير اللازمة والمناسبة، من أجل حماية البيئة، وإنقاذ البشرية من الكوارث البيئية، وكما أكد هذا المبدأ الأول من إعلان ستوكهولم بالسويد، على حق الإنسان في الحرية و المساواة في ظل ظروف معيشية مناسبة في بيئة تسمح نوعيتها بالحياة في ظل الكرامة وتحقيق الرفاه، إلا أن هذا الإعلان لم يحدد معايير البيئة اللائقة أو مؤشرات العلاقة المتوازنة بين الإنسان والبيئة.

استعمال مصطلح التنمية المستدامة

في تقرير لجنة (برونتلاند) الذي عنوانه “مستقبلنا المشترك”، الذي قدمته هذه اللجنة إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1987، والذي تم اعتماده من قبل الجمعية العامة عام 1989، وعلى أساسه تم عقد مؤتمر البرازيل عام 1999، تم فيه أدراج فصلاً كاملاً عن التنمية المستدامة، بإعطاء تعريف دقيق لها ، حيث أن التنمية المستدامة تسعى إلى تلبية حاجيات وطموحات الحاضر من دون الإخلال بالقدرة على تلبية حاجيات المستقبل .

بناءً عليه فقد قررت الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1989 بعقد مؤتمر التنمية المستدامة بمدينة ريو ديجانيرو البرازيلية عام 1992، وقد خرج هذا المؤتمر بمجموعة من الوثائق القانونية، تمثلت في إعلان قمة الأرض (إعلان ريو)، وجدول أعمال القرن الحادي والعشرين، ومبادئ حماية الغابات، وكذلك اتفاقية التغيرات المناخية واتفاقية التنوع البيولوجي.

اقرأ أيضاً: الاقتصاد التشاركي: من عالم الامتلاك الى عالم التشارك

إعلان ريو

تضمن 28 مبدأ ركز فيها على التنمية المستدامة، حيث نجد في المبدأ الأول من الإعلان:

” أن البشر يقعون في صميم الاهتمامات المتعلقة بالتنمية المستدامة “.

وينص المبدأ الثالث:

“على أنه يتوجب إعمال الحق في التنمية حتى يفي بشكل منصف الاحتياجات الإنمائية والبيئية للأجيال الحالية و المقبلة”.

كما أنه في المبدأ الرابع تضمن:

” أنه من أجل تحقيق تنمية مستدامة تكون حماية البيئة جزء لا يتجزأ من عملية التنمية، ولا يمكن النظر إليها بمعزل عنها” .

 بينما ينص المبدأ التاسع:

“على أنه ينبغي أن تتعاون الدول في تعزيز بناء القدرة الذاتية على التنمية المستدامة، بتحسين التفاهم العلمي عن طريق تبادل المعارف العلمية والتكنولوجية”.

 وينص المبدأ العشرين على:

“أن للمرأة دور حيوي في إدارة التنمية البيئية، ولذلك فإن مشاركتها أمر أساسي لتحقيق التنمية المستدامة “.

جدول أعمال القرن الحادي والعشرين 

هذا الجدول تبنته 182 دولة، ويعبر عن الخطة التفصيلية لتحقيق المستقبل المتواصل لكوكب الأرض خلال القرن الحادي والعشرين، وتضم أجندة جدول أعمال القرن الحادي والعشرين  سلسلة من الموضوعات نظمت في أربعين فصلاً، ومائة وخمسة عشرة مجالاً من مجالات العمل، يمثل كل منها بعداً هاماً من أبعاد إستراتيجية شاملة للأعمال التي يلزم القيام بها لحماية البيئة وتحقيق التنمية المستدامة بشكل متكامل.

اتفاقية التغيرات المناخية

نصت الفقرة (4) من المادة (3) من هذه الاتفاقية على الحق في التنمية المستدامة، حيث تضمنت:

“أنه للدول الحق في التنمية المستدامة، وعليهم إتباع السياسات و الإجراءات التي تكفل حماية نظام المناخ من تأثيرات النشاطات الإنسانية، وعليا اتخاذ ما يناسبها من الإجراءات وفقاً للظروف الخاصة لكل منها، والتي يجب أن تتكامل مع برنامج التنمية الوطنية فيها، مع الأخذ بعين الاعتبار، بأن التنمية الاقتصادية ركن أساسي في تبني تدابير للحد من التغير المناخي”.

اتفاقية التنوع البيولوجي

تضمنت هذه الاتفاقية العديد من الأحكام التي تتطلب الأعمال التنظيمية، والتي تعزز الصلة بالتنمية المستدامة في مجال حماية التنوع البيولوجي، وذلك في المواد، (8) و(10) و(11) و(12) و(13)،من هذه الاتفاقية.

 

أبعاد التنمية المستدامة

لا تتحقق التنمية المستدامة إلا بتحقيق الاندماج و الترابط الوثيق بين ثلاث عناصر أساسية، وهي: الجوانب الاقتصادية و الاجتماعية والبيئية للتنمية، كما أن إغفال البعد الاجتماعي أو البيئي، يؤثر سلباً على البعد الاقتصادي.

البعد الاقتصادي

يهدف هذا البعد إلى إيقاف هدر الموارد الاقتصادية الباطنية و السطحية، و الحد من التفاوت في الدخل و الثروة، كذلك الاستخدام العقلاني و الرشيد للإمكانيات الاقتصادية.

كما تهتم التنمية المستدامة بالمساواة بين الشعوب و الدول في مستوى التنمية الاقتصادية، حيث تشير المؤشرات العالمية إلى أن شعوب الدول المتقدمة تنعم بالثروة و الرفاه الاجتماعي، وازدياد مستوى نموها الاقتصادي، مما أدى إلى تطور أنماط الإنتاج والاستهلاك فيها، وفي مقابل ذلك تشهد الدول النامية تدهور كبير في مواردها الطبيعية وتراجع أداء اقتصادياتها، مما ينعكس سلباً على الجانب الاجتماعي لشعوبها من خلال ارتفاع معدلات البطالة وتدني مستوى معيشة أفرادها. وذلك نتيجة لاعتمادها على الاقتصاد الريعي، وزيادة الإنفاق العسكري بدلاً من محاربة الفقر و الأزمات الاقتصادية التي يعيشها وهذا ما يفرض ترشيد استخدام هذه الموارد بشكل يؤدي إلى حماية البيئة وتحسن الظروف الاقتصادية و الاجتماعية للأجيال الحالية والقادمة.

ويرجع ذلك إلى أن الإنتاج المتوافق مع النظام البيئي يختلف عن الإنتاج الحالي، وعليه فإنه ينبغي تغيير أسلوب الإنتاج، وذلك من خلال إدخال إصلاحات أساسية وبشكل أولي على نظام الإنتاج، كالقيام بإجراء تخفيض في مستوى مدخلات الإنتاج (المصادر الطبيعية)، ويعتبر تغيير المدخلات أحد الإصلاحات الأساسية المطلوبة لإدراج حماية النظام الطبيعي ضمن الاقتصاد الكلي (التنمية) مثل التحول من استخدام الوقود الأحفوري (النفط) إلى استخدام الطاقات المتجددة، و التحول من استخدام المواد الخام إلى مواد مستعملة، فضلاً عن ذلك العمل على تقليص المخرجات (المخلفات) من نفايات وملوثات، وتصميم منتجات ذات كفاءة بيئية تراعي إشباع الحاجات الإنسانية، في الوقت الذي تقلل فيه من التأثيرات البيئية السلبية، وكذلك عقلنه استغلال الموارد الطبيعية بمستوى يتناسب على الأقل مع طاقة احتمال الأرض التقديرية.

اقرأ أيضاًتطور التكنولوجيا والاقتصاد

البعد الاجتماعي

يقوم هذا البعد على أساس مبدأ العدالة والعواقب التوزيعية للسياسات، ويهدف إلى إشباع الحاجات الإنسانية وتحقيق العدالة الاجتماعية والدخل الكافي وتحسين المستوى المعيشي للأفراد، كما يتعلق هذا البعد بالصحة والتربية والسكن والعمل، وضمان سلامة أنظمتها الإنتاجية التقليدية وبيئتها الاجتماعية.

وبالأساس يهدف إلى تحسين العلاقة بين الطبيعة والبشر، والى النهوض برفاهية الناس وتحسين سبل الحصول على الخدمات الصحية والتعليمية الأساسية، والوفاء بالحد الأدنى من معايير الأمن، واحترام حقوق الإنسان.

كما أنه يجب العمل على تحقيق تقدم كبير في سبيل تثبيت نمو السكان، لان حدود قدرة الأرض على إعالة الحياة البشرية غير معروفة، وضغط السكان هو عامل متنام من عوامل تدمير المساحات الخضراء وتدهور التربة و الإفراط في استغلال الحياة البرية و الموارد الطبيعية الأخرى.

 البعد البيئي

يقوم هذا البعد على أساس مبدأ المرونة أو قدرة النظام البيئي على المحافظة على سلامته الإيكولوجية وقدرته على التكيف، فإذا ما خسرت تلك النظم مرونتها تصبح أكثر عرضة للتهديدات الأخرى، لهذا يتعين مراعاة الحدود البيئية بحيث يكون لكل نظام بيئي حدود معينة لا يمكن تجازوها من الاستهلاك والاستنزاف، أما في حالة تجاوز تلك الحدود فإنه يؤدي الى تدهور النظام البيئي، وعلى هذا الأساس يجب وضع الحدود أمام الاستهلاك والنمو السكاني والتلوث وأنماط الإنتاج البيئية، واستنزاف المياه وقطع الغابات وانجراف التربة.

وكذلك تحقيق الاستدامة البيئية التي هي أسلوب تنمية يقود حتماً إلى حماية الموارد الطبيعية الضرورية لضمان حماية البشر، كالماء و الهواء و الأرض و التنوع البيولوجي، بحيث لا يقود إلى تدهورها بشكل محسوس عن طريق التلوث وتراكم ثاني أكسيد الكربون، و القضاء على طبقة الأوزون، والقضاء على المساكن الطبيعية التي تسمح بضمان التنوع البيولوجي، ويكون ذلك عن طريق محاربة التلوث والتقليل من استهلاك الطاقة وحماية الموارد غير المتجددة.

ففي البعد البيئي يركز البيئيون في مقاربتهم للتنمية المستدامة، على مفهوم الحدود البيئية، والتي تعني أن لكل نظام بيئي طبيعي حدوداً معينة، لا يمكن تجاوزها من الاستهلاك و الاستنزاف، و إن أي تجاوز لهذه القدرة الطبيعية يعني تدهور النظام البيئي بلا رجعة.

في المقالات التالية سنتطرق الى أهداف ومبادئ التنمية المستدامة، بالإضافة الى مؤشرات التنمية المستدامة.

اقرأ أيضاً: التنمية المستدامة- الجزء الثاني

جميع الحقوق محفوظة لموقع اقتصاديو العرب © 2021