اقتصاديو العرب

corona, coronavirus, virus

الاقتصاد العالمي و كورونا: الرابحون والخاسرون

صورة الكاتب عدنان فرحان


بات عدد الإصابات بفيروس كورونا يزيد عن مليوني إصابة في العالم فيما تخطى عدد الوفيات 120 ألف وفاة وذلك لغاية منتصف شهر نيسان (أبريل) 2020، وطال الوباء القارات الخمس باستثناء منطقة القطب الجنوبي وعطل حياة أكثر من ملياري شخص في عدد كبير من الدول.

منذ تفشي فيروس كورونا والاقتصاد العالمي يشهد ركودا كبيراً يصل الى حالة الشلل، فقد عرقل الإنتاج والإمداد والنقل الجوي عبر العالم، وانخفض الطلب العالمي، وعزل دولاً بأكملها، ووضع أخرى تحت الحجر الصحي، وغيرها تحت حظر التجوال، فضلاً عن أنه أصاب قطاعات المال والطيران والنقل والسياحة بخسائر فادحة. كما أدى انتشار الفيروس في حوالي 189 دولة إلى تداعيات اقتصادية كبيرة تسببت في إرباك السوق المالية العالمية، انعكاساً لصدمات تلحق بالعرض والطلب تختلف عن الأزمات السابقة.


يمكن توضيح أهم الخسائر التي تكبدتها معظم القطاعات الاقتصادية لغاية منتصف نيسان (أبريل) 2020 بالآتي:

1- قطاع الصناعة والشركات العالمية:
أدى انتشار الفيروس الى خسائر هائلة لعدد كبير من الشركات العالمية، ففي إيطاليا التي تعد ثالث أكبر اقتصاد في منطقة اليورو ومصدرا رئيسيا للآلات والمنسوجات والسلع الأخرى، تم تعطيل معظم الصناعات، مما أدى إلى توسيع نطاق الإغلاق على الشركات الصغيرة غير الضرورية لشركات الصناعات الثقيلة، ومن بين الشركات التي أوقفت أو قللت الإنتاج: فيات كرايسلر، وفيراري، وإطارات بيريلي، ونظارات لوكستيكا، صانع نظارات راي بان وأوكليس.

وقدر لوبي “كونفيندوستريا ” الصناعي تكلفة الأزمة على الاقتصاد الوطني، بما يتراوح ما بين 70 مليار إلى 100 مليار يورو (77 مليار دولار – 110 مليار دولار) شهريا، إذا تم إغلاق 70 بالمائة من الشركات، كما هو متوقع.

وتقول شركة فولكس فاجن لصناعة السيارات إنها تخسر ملياري يورو في الأسبوع”، وقال الرئيس التنفيذي إن شركة Wynn Resorts خسرت ما مقداره 2.4 مليون دولار إلى 2.6 مليون دولار يوميًا خلال شهر فبراير وبداية مارس نتيجة غلق الكازينوهات التابعة لها في ماكاو بسبب فيروس كورونا.

وتكبد قطاع صناعة السيارات في الولايات المتحدة خسائر بلغت (355) مليار دولار لغاية منتصف مارس (آذار)، وتوقعت شركة فورد موتور الأمريكية تسجيل خسائر بنحو ٦٠٠ مليون دولا خلال الربع الأول من العام الحالي.

قطاع السياحة والسفر:
توقع الاتحاد الدولي للنقل الجوي (إياتا) في 13 أبريل (نيسان) أن تفقد شركات الطيران العالمية 314 مليار دولار من الإيرادات بسبب جائحة فيروس كورونا في 2020 ارتفاعاً من تقديره السابق في 24 مارس بأن الخسائر ستكون 252 مليار دولار، وأضاف الاتحاد أن قيمة الخسارة المتوقعة تمثل انخفاضا نسبته 55 في المائة في إيرادات خدمات الركاب مقارنة بإيرادات العام السابق بناء على حركة النقل الجوي التي من المتوقع أن تتراجع 48 في المائة بسبب إغلاق عدد كبير من المقاصد السياحية عالمياً، وإلغاء العديد من الرحلات السياحية حول العالم.

وأكد الاتحاد أن قيود السفر المفروضة زادت من آثار ركود الطلب على السفر، وأن الربع الثاني سيسجل أكبر نسبة من هذا التأثير، ومع بداية شهر أبريل الجاري سجلت عدد الرحلات على المستوى العالم انخفاضاً بنسبة 80% بالمقارنة مع 2019، وذلك بسبب قيود السفر المفروضة من الحكومات للتصدي إلى تفشي الفيروس ، ويمكن أن تشهد الرحلات المحلية عودة جزئية في بداية الربع الثالث عند رفع القيود بشكل أولي، إلا أن الرحلات العالمية ستكون معدلات عودتها أبطأ بسبب مواصلة الحكومات على فرض هذه القيود.

وفي الولايات المتحدة وحدها انخفض عدد ركاب شركات الطيران بنحو 96٪. وفي 8 أبريل/نيسان، فحصت إدارة أمن النقل حوالي 95,000 شخص عند نقاط التفتيش في المطار، مقارنة بـ 2.3 مليون شخص في العام السابق. ويشغل حوالي مقعد واحد من كل عشرة مقاعد على الرحلات الداخلية الأميركية، وقد اوقفت شركات الطيران الأميركية 1800 طائرة عن الاستخدام، ووقوفها في مطارات مختلفة في جميع أنحاء البلاد. ويقدر المحللون في سيتي جروب أن شركة دلتا إيرلاينز تخسر حوالي 50 مليون دولار في اليوم.

2- أسواق الأسهم والسندات:
عانت أسواق الأسهم في جميع أنحاء العالم خسائر تاريخية في الأشهر الثلاثة الأولى من العام الحالي، وسط عمليات بيع مكثفة مرتبطة بانتشار فيروس كورونا المستجد.

فقد شهد مؤشرا داو جونز الصناعي ومؤشر فوتسي في لندن أكبر انخفاضات فصلية منذ عام 1987، اذ انخفضا بنسبة 23 في المئة و25 في المئة على الترتيب، كما خسر مؤشر ستاندرد آند بورز 500 نسبة 20 في المئة خلال الربع الأول، وهو الأسوأ له منذ عام 2008.

وخلال بضعة أسابيع من ظهور «كورونا» خسرت الأسهم والسندات المدرجة في البورصات العالمية أكثر من 17 تريليون دولار؛ من بينها 7.2 تريليونات دولار خسائر الأسهم المدرجة في الولايات المتحدة وحدها.

كما أوضح معهد التمويل الدولي أن أسواق الأسهم والسندات بالاقتصادات الناشئة تعرضت لنزوح قياسي في تدفقات رؤوس الأموال خلال الشهر الماضي بسبب أضرار فيروس “كورونا” والخسائر بأسواق النفط والأصول الأخرى.

وأوضحت البيانات أن أسواق الأسهم والسندات بالدول الناشئة خسرت نحو 83.3 مليار دولار في الشهر الماضي في المجم.، وفي تفاصيل البيانات، خسرت أسواق الأسهم بالاقتصادات الناشئة 52.3 مليار دولار خلال مارس، بينما خسرت أسواق السندات 31 مليار دولار، وهي ثاني أكبر خسارة شهرية منذ أكتوبر عام 2008.


3- قطاع النفط والطاقة:
نتيجة الأزمة فقد انخفض الطلب والاستهلاك بشكل كبير وانهارت أسعار النفط بشكل كبير لتنخفض دون مستوى 30 دولار للبرميل بعد ما كانت تتراوح بين 55-60 دولار للبرميل قبل الأزمة، وكان أحد أسباب الانخفاض هو وقف نسبة كبيرة من النشاط الصناعي في الصين، اذ تعد الصين أكبر مستورد للنفط الخام في العالم بمتوسط يومي بلغ 10 ملايين برميل، وهي ثاني أكبر مستهلك له بمتوسط يومي يبلغ 13.2 مليون برميل.

ومن المحتمل أن تكبد أسعار النفط بين 30 و40 دولارا للبرميل هذا العام دول الخليج عشرات المليارات من الدولارات من إيراداتها، وتقول أرقام كابيتال إن السعودية قد تشهد ارتفاع العجز في موازنتها لعام 2020 إلى 16.1 في المئة من التقدير السابق البالغ 6.4 في المئة إذا كان متوسط أسعار النفط 40 دولارا للبرميل، أما إذا كان متوسط الأسعار 30 دولارا للبرميل فتقول أرقام كابيتال إن العجز سيقفز إلى 22.1 في المئة وهو ما يعادل 170 مليار دولار.

pump jack, oilfield, oil

وقد أدت الخسائر في قطاع النفط بمنظمة أوبك أن تجري محادثات أزمة مع حلفائها انتهت بحزمة قرارات أهمها تخفيض الإنتاج بنحو 10 مليون برميل يوميا، وتوقعت وكالة الطاقة الدولية أن ينخفض الطلب العالمي على النفط بمقدار 29 مليون برميل يوميا على أساس سنوي في أبريل/نيسان ليسجل مستويات لم يشهدها منذ 25 عاما وحذر من أي خفض للإنتاج من جانب منتجين لن يعوض بالكامل خسائر الطلب في السوق في الأجل القريب.

وتوقعت الوكالة أن ينخفض الطلب على النفط في 2020 بمعدل 9.3 مليون برميل يوميا رغم ما وصفته ببداية قوية من جانب المنتجين عقب اتفاق قياسي لخفض الإمدادات استجابة لفيروس كورونا.

4- البطالة:
بحسب تقرير جديد لمنظمة العمل الدولية، فإنه من المتوقع أن يشهد العالم تقليصا في الوظائف لنحو 200 مليون من الموظفين بدوام كامل في الأشهر الثلاثة المقبلة فقط.

وذكرت وكالة موديز للتحليلات أن أكثر من 30 مليون وظيفة أميركية معرضة بشدة لعمليات الإغلاق المرتبطة بانتشار الفيروس، وتشير الأبحاث التي نشرها بنك الاحتياطي الفيدرالي في سانت لويس إلى أن ما يقرب من 50 مليون أميركي قد يفقدون وظائفهم في الربع الثاني من عام 2020، مما يدفع معدل البطالة إلى حوالي 30%.

وأصبح هناك نقص هائل في العمالة في جميع أنحاء المناطق الزراعية في أوروبا حيث أن القوى العاملة المهاجرة التي تقوم عادة بالحصاد غير قادرة على السفر إلى المزارع. هناك حاجة إلى 300،000 عامل في ألمانيا، و200،000 آخرين في فرنسا لحصاد الفراولة وحدها.

5- خسائر أغنياء العالم:
كشف تقرير لوكالة بلومبيرج، أن خسائر عمالقة شركات التكنولوجيا بسبب فيروس كورونا بلغت حسب آخر إحصائية 53 مليار دولار، فقد تعرض على سبيل المثال “جيف بيزوس” المؤسس والرئيس التنفيذى لشركة أمازون، لخسائر بلغت 8.14 مليار دولار، وتعرض بيل جيتس، المؤسس المشارك لشركة مايكروسوفت لخسائر بلغت 6.98 مليار دولار، أما مارك زوكربيرج، الرئيس التنفيذى لـ”فيس بوك” فقد بلغت خسائره 5.89 مليار دولار، وتعرض لارى بيج، أحد مؤسسى جوجل لخسائر 4.34 مليار دولار، وخسر ستيف بالمر، الرئيس التنفيذى السابق لشركة مايكروسوفت 4.81 مليار دولار.

الشركات المستفيدة من انتشار الفيروس:

ولأن مصائب قوم عند قوم فوائد، فهناك شركات عديدة استفادت من انتشار فيروس كورونا، وتعد شركات تصنيع الأقنعة والقفازات الطبية في طليعة المستفيدين من تفشي الفيروس القاتل، وذلك مع توافد المستهلكين على شراء الأقنعة التي اختفت من على أرفف المتاجر في أماكن مختلفة من العالم. وارتفعت مبيعات الأقنعة الواقية والسوائل لتطهير الأيدي ومنتجات التنظيف.

وانعكس الإقبال على الأقنعة والقفازات على سهم شركة Alpha Pro Tech الكندية التي تبيع الأقنعة في الصين، والذي ارتفع بنسبة 70 في المئة خلال يناير، بينما زادت القيمة السوقية لشركة 3M بنحو مليار و400 مليون دولار في الفترة من بداية العام حتى 24 يناير.
وتمتد الاستفادة لشركات الأدوية خصوصا التي تعمل على أبحاث الأمصال المضادة لفيروس كورونا، مثل شركة Novavax التي قفز سهمها 72 في المئة خلال يناير، وسهم Inovio الذي ارتفع 25 في المئة، ثم سهم MODERNA بخمسة في المئة في الفترة نفسها.

وفي ظل بقاء مئات الملايين من الأشخاص في منازلهم لحماية أنفسهم من الإصابة بعدوى فيروس كورونا.. استفادت شبكات البث الرقمي لتبديد شبح الهلع والتخفيف من وطأة العزلة والوحدة، وهو ما حقق أرباح كبيرة للعديد من مواقع الخدمات الرقمية في الوقت الذي انهارت فيه كبرى المؤسسات العالمية. على عرش هذه الشركات المستفيدة يتربع عملاق البث الرقمي «نتفليكس» كشركة رابحة من انتشار فيروس الكورونا. وقد ارتفعت أسهم شركة نتفليكس كنتيجة لتزايد نسب المتابعة والمشاهدة لمضامينها المختلفة، كما حقق تطبيق « تيك توك» نموا مطردا على مستوى عالمي من خلال عمليات التنزيل المتزايدة بنسق مرتفع منذ تفشي فيروس كورونا في جل قارات العالم.

وأفادت التقارير المختصة أن تطبيق «تيك توك» أصبح واحدا من أشهر التطبيقات في جميع أنحاء العالم حيث تقدم على أسماء كبيرة مثل واتس آب، وفيسبوك.


تهديد الرأسمالية

الآن، فجأة، كل شيء توقف لقد أغلقت المتاجر، ملاعب كرة القدم فارغة، المطارات مغلقة، المصانع أغلقت أبوابها وتوقف الإنتاج الضخم، تم سحب الفرامل على الاستهلاك. أسواق الأسهم أنهارت. ومع ذلك، الوجه الآخر يظهر من خلال انخفاض معدلات التلوث في المدن الكبرى. الطبيعة تتولي زمام الأمر الأنهار والغابات تتنفس، إن الإغلاق في مواجهة الوباء الذي نشهده الآن يجبرنا على معالجة السؤال التالي: هل كان اتباع النظام الرأسمالي سببا في معاناة الناس خصوصا في أوروبا وأمريكا؟

dollar, currency, capitalism

ينتقد البعض الرأسمالية بأنها وضعت الربح والفوز والمنافسة أهدافا وأولويات، على حساب تنمية الإنسان، ورعايته وحمايته. الا أن المناصرين لها يرون أنها تحفز الانسان على الحلم والصعود والايجابية، ولذلك فعند بداية انتشار الفيروس واتضاح أن العزل هو الحل للوقاية من الفيروس.

قاوم كثير من السياسيين اليمينيين إجراءات الوقاية من كورونا في بداية تفشي الفيروس، بسبب الخسائر التي تجنيها الرأسمالية من هذا العزل، وقد عبر دان باتريك، المذيع الأمريكي وأحد مؤيدي ترامب، عن وجهة النظر اليمينية في أحد أكثر أشكالها تطرفًا وهو يتحدث عن أن الأفراد الأكثر عرضة للإصابة بعدوى كورونا هم الكبار سنًا، وأن هؤلاء عليهم التضحية بحياتهم في سبيل إنقاذ الاقتصاد، بل إنه هو شخصيًا على استعداد للتضحية بحياته في سبيل إنقاذ هذا الكيان الافتراضي المسمى بـ “الاقتصاد”.

ويرى البعض أن القصور الذي ظهر سريعا في القطاعات الصحية الغربية كان نتيجة طبيعية لتخلي تلك الدول عن مسؤولياتها في أمر أساسي كالصحة وذلك بخصخصتها وتركها سلعة خاضعة لقوى السوق التجاري مع الاكتفاء بنظم التأمين الصحي القاصرة حتى صارت أسعار العلاج خيالية، وقد أدى ذلك بمنطق السوق إلى ظهور النقص في تخزين مواد طبية استراتيجية أو حيوية مع ظهور كورونا، و ذلك لأن تخزينها لا ربح فيه وأدى إلى جعل الأبحاث الطبية و الدوائية مرتبطة بمختبرات الشركات الربحية، مع أن كلا الأمرين أي وجود مخزون استراتيجي من المواد الطبية الحيوية و أبحاث الطب مما يجب أن تنفق عليه الدولة وتخصص له الموارد، كما تخصص مئات المليارات لمخزون الأسلحة وأبحاث غزو الفضاء.

أدت أزمة جائحة كورونا الى جعل الشعوب تتطلع لدور الدولة وقادتها السياسيين ومؤسساتها الحكومية للخروج من تلك الأزمة خاصة وأنه ليس للقطاع الخاص ورجال الأعمال دور لإدارتها وتقديم دعم وحلول لها لأن مهمة مديري الشركات هي تعظيم الأرباح. وأي انحراف عن هذا “الالتزام الأخلاقي” من شأنه أن يحطم أسس “الحياة المتحضرة”. كما أوضح المفكر الاقتصادي ميلتون فريدمان، ما جعل العبء الأكبر يقع على عاتق الدولة، التي لم تجد أمامها سوى أن تستجيب بتقديم مساعدات مالية في صورة قروض ومنح لمساعدة المتضررين من ناحية، ولتحفيز ودفع عجلة الاقتصاد من ناحية أخرى.

عودة الحكومات الغربية إلى التدخّل في السوق للمرّة الثانية بعد الأزمة المالية العالمية في نهاية 2008 هو تهديد لقيم ومبادئ الرأسمالية التي ترفض تدخل الدولة في السوق، فبعد تفشي فيروس «كورونا» في أميركا، أعلن الرئيس الأمريكي ترامب عن حزمة مساعدات بلغت (2.2) ترليون دولار. سيتم تمويلها من الضرائب أو آليات أخرى، وسيخصص جزء منها لدعم الشركات المنهارة.

وأعلنت ألمانيا عن حزمة مساعدات بقيمة (800) مليار دولار، كما أن وزير المالية الفرنسي أعلن أن حكومته مستعدّة لطرح جميع السبل «لدعم الشركات الكبرى بما فيها التأميم»، فيما نقلت «رويترز» إمكان لجوء إيطاليا إلى «تأميم الخطوط الجوية الإيطالية وأن الحكومة ستخصص 600 مليار يورو لدعم قطاع الطيران غالبيتها لشركة أليتاليا، وأنه سيتم تأسيس شركة جديدة تديرها وزارة الاقتصاد.

عملياً، بدأت الحكومات المتضرّرة تستعمل السياسات المالية، أو بمعنى آخر، الضرائب المحصّلة من المال العام من أجل تمويل خسائر الشركات. طبعاً، الأمر يختلف بين أميركا وأوروبا، تبعاً للظروف السياسية في كل بلد ومنطقة، ونوع المصالح والعلاقات بين الشركات والطبقة الحاكمة. ففي فرنسا رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون يمثّل هذه الطبقة مباشرة، وترامب يمثّلها أيضاً، لكن طبيعة هذه المصالح مختلفة في دول أوروبية أخرى مثل إيطاليا وألمانيا.

في العادة، تستخدم أموال الضرائب أو السياسات المالية من أجل دعم الأجور، لكن في الولايات المتحدة وبعض دول أوروبا يحصل العكس تماماً، إذ تستخدم اليوم من أجل دعم رأس المال!

ويرى البعض أن حزم الإنقاذ هذه كان يجب أن تتجه إلى خطة طوارئ لتعزيز الصناعة الطبية وبنية القطاع الصحي، وإلى خطة رعاية لتامين الاحتياجات الأساسية لعموم الرعايا، بدلا من شركات القطاع الخاص التي تأثرت بالأزمة.

وانتقد الفيلسوف الشهير نعوم تشومسكي تعامل الحكومة الأمريكية في أزمة الفيروس المستجد في تصريحات أدلى بها لمجلة رولينج ستون الأمريكية. وقال تشومسكي “إنه مفهوم يتعلق بالاقتصاد والكفاءة، كان ينبغي أن يكون لدينا تجهيزات طبية كافية لاحتياجاتك المستقبلية”.

وواصل انتقاداته قائلا: “الأمر الذي يبرع فيه قادتنا خلال الأربعين عاما الماضية هو صب الأموال في جيوب الأثرياء والمسؤولين التنفيذيين للشركات مع ترك كل شيء آخر يتحطم”.

لذا فان الرأسمالية اليوم تقف أمام مفترق طرق اذ بدأ يطفو الى السطح مفهوم دور الدولة كما حدث خلال الأزمة المالية العالمية التي حدثت عام ٢٠٠٨، ويجدر القول أن هناك مدرستين في النظام الرأسمالي كل منها لديها مدخل مختلف، فالمدرسة الكنزية تناصر إفساح المجال لتدخل الدولة في إدارة الاقتصاد والعمل على الإنفاق العام من أجل دعم القطاع الخاص والسيطرة على الأزمات الدورية التي تعصف بالنظام الرأسمالي، والمدرسة الكلاسيكية التي أسسها الاقتصادي المعروف آدم سميث واعتمدت عليها مدرسة شيكاغو التي شرعت بوضع الأسس لليبرالية الجديدة، وتدعم هذه المدرسة تجريد الدولة من كل مسؤولياتها تجاه المجتمع على صعيد الصحة والخدمات والتعليم، وقد أظهرت أزمة فيروس كورونا دور الدولة بشكل متردد بالتصدي لهذه الازمة، فالولايات المتحدة، وهي أغنى دولة وأكثرها تقدماً من الناحية التكنولوجية والعلمية في العالم غير قادرة على إجراء أقل قدر من الاختبارات التي من شأنها أن تجعل إدارة الوباء ممكنة، وفي جميع أنحاء البلاد، يسعى المرضى والأطباء جاهدين إلى إجراء اختبارات، ووجد استبيان أجري مؤخرا على الممرضات على الساحل الغربي أن معظم المستشفيات ليس لديها خطة واضحة لعزل وعلاج مرضى الفيروس، وهناك تقارير عن أماكن عمل تفتقر حتى إلى أبسط منتجات النظافة الصحية لمكافحة انتشار الفيروس، فضلا عن ذلك فان قيام النظام الاقتصادي الليبرالي في الغرب بخفض التكلفة لصالح العمالة الرخيصة قد أدى الى تحويل الصناعات الرئيسية إلى الصين وكوريا الجنوبية وتايلند وفيتنام وماليزيا، وقد تحولت مراكز التصنيع الرئيسية إلى الصين والعالم النامي. وبالتالي، يتعين على الغرب أن ينتظر الواردات من معدات الحماية من الفيروس بينما يموت شعبه.

وهذا الحال يرجع بنا الى ما قاله ماركس من أن معدل الربح في النظام الرأسمالي ينخفض بشكل مضطرد، وهذا المعدل يحصل عليه من فائض القيمة التي ينتجه العامل، إذ يبدأ الرأسمال بالتدفق في كل أزمة تعصف بالنظام الرأسمالي، على الرأسمال الثابت مثل التطور التكنولوجي والآلات كي تضمن قدرتها التنافسية وتنتج بضاعة رخيصة ذات جودة أفضل وبأسعار ارخص. ففي البلدان التي عرفت بدول الرفاه، فقدت هذه الخصائص ولذلك نجد أن الرأسمال هرب إلى البلدان ذات العمالة الرخيصة كي تضمن معدل ربح عالي مثل الصين وفيتنام وكمبوديا وبنغلاديش والهند والمكسيك والبرازيل. ويفيد أحدث تقرير صادر عن مؤسسة “برايس ووتر هاوس كويزر” ونشره موقع بي بي سي، أن الدول المذكورة ستتصدر اقتصاديات العالم في عام ٢٠٥٠ وتزيح كل من الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا واليابان وبريطانيا من مواقعها إلى أسفل السلم في مجموعة G20.

في الختام فان النظرة لاقتصاد ما بعد الفيروس تبدو قاتمة نوعا ما اذ أن الانهيار الاقتصادي للعديد من الشركات الإنتاجية بدأ يحدث، وبما أن هدف الشركات الرئيسي هو تحقيق الربح، وعليه فإنها إذا لم تتمكن من الإنتاج فإنها لن تحقق أرباحاً، مما يعني أنهم أقل قدرة على التوظيف، وقد تتمسك الشركات بالعمال الذين لا يحتاجون إليهم لمدة قصيرة وذلك لأنها تريد أن تكون قادرة على تلبية الطلب عندما ينتعش الاقتصاد مرة أخرى، ولكن، إذا بدأت الأمور تبدو سيئة بشكل فعلي والانتعاش يبدو بعيد المنال فإنها ستسرح العدد الأكبر من عمالتها ويبدأ المزيد من الناس بفقدان وظائفهم ويتحول الوضع إلى كساد اقتصادي.

لكن فيروس كورونا لن ينهي الرأسمالية، ما سنراه سيكون إعادة تشكيل الرأسمالية، صحيح ستكون هناك قطاعات من رأس المال ستخسر الكثير، وشركات ستعلن افلاسها، الا أن إعادة تشكيل الرأسمالية هذه ستؤدي إلى زيادة تركيز رأس المال وإلى تدخل أكبر من جانب الدولة. بعض الشركات ستختفي، والبعض الآخر سوف تستوعبه شركات أكبر، والبعض الآخر ستستحوذ عليه الدولة لإنقاذ الاستثمارات الرأسمالية. وهذا هو الاتجاه، ولكن ليس من الواضح كيف سيكون مستقبل المنافسة بين مختلف القطاعات الرأسمالية في جميع أنحاء العالم. فمن ناحية، تتمتع الصين بقدرة فائضة في العرض على البيع للعالم، ولكن من ناحية أخرى، تفاقمت القيود التجارية بسبب أزمة الفيروس. ومن ثم فإن هذا الوباء سوف يعزز دور الدولة ويعزز القومية. وسوف تتبنى الحكومات من جميع الأنواع تدابير طارئة لإدارة الأزمة، وسوف يكره العديد منها على التخلي عن هذه القوى الجديدة عندما تنتهي الأزمة.

كما سيسرع فيروس كورونا من التحول في السلطة والنفوذ من الغرب إلى الشرق، وقد استجابت كوريا الجنوبية وسنغافورة للأزمة بشكل أفضل، وكان رد فعل الصين جيداً بعد أخطائها المبكرة. وبالمقارنة فان الاستجابة في أوروبا وأمريكا بطيئة وعشوائية، الأمر الذي زاد من تشويه ما يعرف ب “العلامة التجارية” الغربية.