اقتصاديو العرب

اقتصاد الدونات: إعادة التفكير بالاقتصاد من جديد

اقتصاد الدونات: إعادة التفكير بالاقتصاد من جديد

تم إنشاء مفهوم اقتصاد الدونات (Doughnut economics) من قبل الخبيرة الاقتصادية كيت راورث (Kate Raworth) في عام 2012، وبشكل لافت للنظر في هذا النموذج يوضح كيف يمكننا اعادة التفكير، وإعادة رسم الاقتصاد، والتحرك نحو نظام لا يركّز على تعظيم النمو في محاولة للتغلب على الندرة، ولكن على إنشاء مجتمع يستخدم الموارد بطريقة يمكن أن تستمر لجميع الأجيال القادمة.

نموذج اقتصاد الدونات

نموذج كيت هو تشبيه بسيط بشكل مذهل لمجتمع مزدهر حيث يمثل الجزء الخارجي من الدونات السقف البيئي الذي لا يمكننا تجاوزه، ويمثل الداخل الأساس الاجتماعي الذي لا ينبغي أن ندع الناس يسقطون أدناه، وتمثل المساحة في المنتصف بين هاتين الدائرتين منطقة “الفضاء الآمن والعادل للإنسانية” حيث يمكن للناس أن يعيشوا حياة سعيدة، ويلبي الاحتياجات الفردية والاجتماعية ويتصرفوا في انسجام مع الموارد الطبيعية والبيئة.

ببساطة “الدونات”: يمثل القدرة على الازدهار الاقتصادي، مع تلبية الأسس الاجتماعية لجميع الناس

التحدي الذي يواجهه البشرية في القرن الحادي والعشرين هو تلبية احتياجات جميع الأشخاص الموجودين على مستوى العالم، أو بعبارة أخرى، مع عدم قصور أي من ضروريات الحياة (من الغذاء والسكن إلى الرعاية الصحية وغيرها)، مع ضمان أننا بشكل جماعي لا نستنزف موارد وأنظمة دعم الحياة على الأرض، والتي نعتمد عليها بشكل أساسي- مثل المناخ المستقر والتربة الخصبة وطبقة الأوزون السليمة.

اقرأ أيضاً: الاقتصاد التشاركي : من عالم الامتلاك الى عالم التشارك

قبل نموذج الدونات، العديد من النظريات الاقتصادية الحالية (النظرية الكينزية، والنظرية النقدية، وما إلى ذلك) والتي يزيد عمرها عن 100 عام، يتم فيها قياس النمو الاقتصادي فقط من خلال زيادة الناتج المحلي الإجمالي، مع تجاهل الطبيعة المحدودة لموارد الأرض وعواقب أفعالنا.

اقرأ أيضاً: الاقتصاد الدائري والابتعاد عن الاقتصاد الخطي 

وتتميز نظرية راورث بأنها ذات بُعد إنساني، وتهدف إلى تحقيق الكفاية الاقتصادية للإنسان باستخدام الموارد المتاحة لنا على الأرض، و دون الإضرار بالبيئة مع مراعاة العمالة غير المدفوعة الأجر و مراعاة الأمهات التي تعمل يوميا لرعاية أسرها و الأعمال التطوعية التي تساهم في بناء المجتمع، وتطويره من دون انتظار أجر أو عائد اقتصادي.

المبادئ السبعة الاساسية لنظرية الدونات

 نظرية  الدونات عبارة عن عقلية اقتصادية تتناسب مع سياق وتحديات القرن الحادي والعشرين، فهي ليست فقط مجموعة من السياسات والمؤسسات، بل هي طريقة تفكير تؤدي إلى آليات التجديد والتوزيع المطلوبة في هذا القرن، بالاعتماد على رؤى من مدارس متنوعة للفكر الاقتصادي بما في ذلك الاقتصاد البيئي والمؤسسي والسلوكي.

المبادئ السبعة الاساسية لنظرية الدونات

تعتمد نظرية راورث على سبعة مبادئ رئيسية تلخص نظرية الدوناتس من أجل جلب اقتصادات العالم إلى الفضاء الآمن والعادل للبشرية وهي:

أولا: “تغيير الهدف”

النظريات الاقتصادية الكلاسيكية المختلفة هدفت ولسنوات عديدة تحقيق معدل نمو اقتصادي مرتفع، في حين تشير راورث أنه قد حان الوقت لتغيير هذا الهدف، اذ إنه حتى الدول التي حققت معدل نمو اقتصادي مرتفع لم تنجح في خفض معدلات الفقر بها أو تحقيق توزيع عادل للثروات، وأن هدف أي سياسة اقتصادية يجب أن يكون توفير واشباع الاحتياجات الأساسية لكل الأفراد مع مراعاة البعد الإنساني والعدالة الاجتماعية و الحفاظ على البيئة.

ثانيا: “نظرية جديدة”

 حان الوقت لنظرية اقتصادية جديدة وتوديع المفاهيم السائدة لعقود طويلة والتي لم تحقق أهدافها، وذلك من خلال استكشاف العقلية الاقتصادية اللازمة لمواجهة التحديات الاجتماعية والبيئية في القرن الحادي والعشرين، من خلال رؤية الصورة الكبيرة والاعتراف بأن الاقتصاد جزء لا يتجزأ من المجتمع والعالم الحي ومعتمد عليهما.

ثالثاً: “احترام الطبيعة الإنسانية”

لقد ظل الإنسان لعقود مطارداً مصالحة الفردية ممسكا بآله حاسبة في يده محاولاً تحقيق مستويات أعلى من الدخل ومستويات أعلى من الرفاهية واأن هدفه الرئيسي هو تحقيق النمو اللامتناهي، مطارداً أرقام معدلات نمو مرتفعة وهو ما قد يتنافى مع الطبيعة الإنسانية و مصلحة المجتمع ككل.

رابعاً: ” نظام مرن”

الاقتصاد ليس كالفيزياء ولا يخضع لقواعد ثابتة يمكنها التنبؤ بتوجهات السوق في كل مرة بشكل صحيح وتقول راورث أنه يجب التعامل مع الاقتصاد على أنه حديقة ومع الاقتصاديين على أنهم مزارعون وليسوا مهندسين أو فيزيائين وعلى المزارع أن يهتم بحديقته ويساعدها على النمو في الاتجاه الصحيح بشكل مختلف يتماشى مع كل حالة على حدة حسب الصعوبات التي يواجهها ليحقق هدفه والحصول على محصول سليم في النهاية.

خامساً: ” إعادة توزيع الثروات”

لا بد من وجود آلية تضمن توزيع الثروات بشكل عادل، وفي هذا الشان تؤكد راوث أن هذا لن يتحقق إلا بقرارات سياسية وإعادة صياغة قوانين الدخل والضرائب بشكل يضمن القضاء على الفقر، فترك الأمر للمنظومة الاقتصادية لا يؤدي إلا  لإتساع الفجوة بين الفقراء والأغنياء، وهذا هو ما يحث بالواقع الحالي.

سادساً: ” التوسع في الصناعة لإعادة الاستهلاك وتقليل حجم المخلفات”

بهدف الحفاظ على البيئة فلأكثر من ٢٠٠ عام الماضية تقوم الأنشطة الصناعية على أخذ الموارد من الطبيعة تصنيعها إلى منتجات واستهلاكها لفترة ثم التخلص منها كمخالفات وهو نظام أسمته راورث ( take-make-use-lose)، وهو ما يؤدي في النهاية إلى تدمير النظام البيئي ويجب أن نتحول إلى نظام تدوير المخلفات، وأن تكون مخلفات صناعة هي مدخلات لصناعة أخرى و هكذا بحيث يتم إعادة استهلاك المنتجات وتدويرها مرة تلو الأخرى، وذلك من أجل تلبية جميع احتياجاتنا دون استنفاد الكوكب، مما يعني إنشاء علاقة متوازنة بين الناس والبيئة.

سابعاً: “نحن بحاجة إلى نظرة أكثر شمولية واقتصاد للكوكب ككل”

تؤكد راورث أن النظريات الاقتصادية في بداية ظهورها جاءت تتعامل مع الإنسان كفرد وتعظيم منفعته الاقتصادية، ثم بدأ المفهوم يتسع ليشمل مجموعة أفراد داخل الدولة ثم مجموعة من الدول داخل المنظمات ولكن حان الوقت للتعامل مع اقتصاد بنظرة أكثر شمول تشمل كوكب الأرض بشكل كامل ومراعاة البعد الإنساني والبعد البيئي.

من المؤكد أن أياً من المبادئ التي وضعها راورث ليست أفكاراً جديدة تماماً، لقد دفع المناصرون والحركات باتجاه سياسات تعكس تلك المبادئ لعقود، ما تقدمه الدونات بدلاً من ذلك هو استعارة تجمعهم وتساعدنا على تصور نظام اقتصادي يمكن أن يخلق مجتمعاً مزدهراً اليوم ويحافظ على كوكب صالح للعيش لجميع الأجيال القادمة

نحن بحاجة إلى إعادة التفكير في علم الاقتصاد لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين، الدونات هو نموذج قد يضعنا على الطريق الصحيح، يوضح لنا كيف يمكننا بناء اقتصادات تخدم احتياجاتنا الاجتماعية دون إرهاق موارد الكوكب المحدودة، إذا تمكنّا من الدخول إلى مساحة الدونات الآمنة، فسنكون على الطريق الصحيح نحو عالم لن تعيش فيه البشرية والطبيعة فحسب، بل تزدهر.

أنشّر معنا

اذا كنت مدون وترغب بنشر مقالاتك، قم باضافتها وسيتم نشرها بأسرع وقت

جميع الحقوق محفوظة لموقع اقتصاديو العرب © 2021