اقتصاديو العرب

حي بن يقظان

قصة حي بن يقظان عند ابن سينا والسهروردي وابن طفيل (الجزء الأول)

تُعد قصة ابن طفيل (حي بن يقظان) واحدة من القصص الرمزية التي حاول أصحابها أن يوصلوا شيئاً من أفكارهم الفلسفية إلى الآخرين، متحذين من الجانب الرمزي سبيلاً وقالباً يمكنهم من تجسيد فلسفتهم، وهذا النهج يعد قديماً عرفته الأساطير اليونانية القديمة، كما عرفه الفلاسفة المسلمون: الفارابي وابن سينا وإخوان الصفا، ففي الأساطير اليونانية القديمة تجد قصة (أسطورة) شور، وكذلك قصة الطفل الذي تركته أمه خوفاً من والده، وهي تشكل بعض الأفكار والمعارف الإنسانية.

اقرأ أيضاً: كيف نشأت الفلسفة في بلاد المسلمين؟
ومن الفلاسفة المسلمين هناك ابن سينا الذي صنف وكتب قصة بنفس عنوان قصة ابن طفيل، وهناك أيضاً السهروردي المقتول الذي سرد قصة، تحت ذات الاسم، وهي، قصة رمزية حملها عدداً من الأسئلة والاستفسارات الفكرية.

أولاً : قصة ابن سينا

عرض ابن سينا جانباً من آرائه وأفكاره في قالب قصصي رمزي هدف من خلاله، إلى عرض آرائه الفلسفية والعقلانية، فكتب قصته (حي بن يقظان)، يرمز بها إلى العقل الفعّال والنفس الإنسانية، كما تناول من خلالها الحديث عن الغرائز والشهوات، وسائر ملكات الإنسان، واستعرض النزاع بين الشهوات الغريزية والضمير الإنساني اليقظ، وملخص القصة هو:
أن ابن سينا قد التقى، في سفرة من أسفاره، بشيخ بهي الطلعة قد أوغل في السن ولم يهن منه عظم ولا تضعضع له ركن، فمال إليه، رغبة في محادثته، فاستأنس الشيخ به وتجاذبا أطراف الحديث ثم تشعب بهم إلى أمور متفرقة؛ حيث تعرف على الشيخ الذي هو حي ابن يقظان وقد قدم من بلدة بيت المقدس، وكانت حرفته السياحة في الأرض حتى أحاط بخبرها وأن أباه قد منحه مفاتح العلوم كلها فاهتدى إلى الطريق السالك، وتشعب بهما الحديث حتى أفضى بهم إلى علم الفراسة الموصل إلى كشف الأمور الخفية عن طريف مقدمات عرفانية بديهية، فيحدثه الشيخ عن الرفقة التي تصحب الإنسان (شهواته) فيصفها بأنها رفقة سوء وأنها ملتصقة بالنفس التصاقاً، وعلى الإنسان، إن أراد الفكاك منها، أن يغترب إلى أرض لم يطأها من قبل مثله، وهذا أمر في غاية الاستحالة؛ إذن فعليه أن يتمسك بالفوائد العقلية المحضة فهي التي ستبلغه أعلى درجة من درجات سلم السعادة، بعد ذلك اتجه بهم الحديث إلى سؤال الشيخ عن أقاليم الأرض وحدودها، فقال: إن حدود الأرض ثلاثة، حد يحده الخافقان، وحدان هما: حد المشرق وحد المغرب لكل واحد منهما صقع قد ضرب بينهما وبين عالم البشر بسور لا يتعداه إلا الخواص بخروجهم من عين الحيوات الراكدة واغتسالهم في العين الخرارة فيتطهرون، ثم يحدثهم عقب ذلك عن ملك تلك الحدود الثلاثة الذي يقوم بوصفه بأكمل وأتم صفات الجلال والكمال، والبهاء والجمال.

اقرأ أيضاً: استشراف المستقبل

ثانياً: قصة السهروردي

وخلاصة موضوعها هو: أن السهروردي قد خرج في رحلة مع أخ له من ديار ما وراء النهر إلى القيروان، وهناك تم القبض عليهما وحبسا في جب عليه قصر مشيد، وكان يسمح لهما إذا جن الليل أن يخرجا إلى السطح، على أن يعودا عند الفجر، وبينا هما على تلك الحال إذ جاءهما الهدهد فقال: إني قد أحطت بوجه خلاصكما، وجئتكما من سبإ بنبإ يقين، وألقى إليهما الهدهد رسالة جاء فيها: أنه من أبيكما الهادي، وأنه بسم الله الرحمن الرحيم، كم شوقناكم فلم تشتاقوا، ودعوناكم فلم ترحلوا …، فإن أردتما الخلاص من ما أنتما فيه فلا تنوا في العزم، واعتصموا بحبلنا… فسافرا واركبا السفينة التي بسم الله مجراها ومرساها، فتقدم الهدهد وركبا السفينة طلباً للوصول إلى طور سيناء حيث صومعة أبيهما، وهناك وجدا أباهما (ورأيت أبانا شيخاً كبيراً تكاد السماوات والأرض تنشق من تجلي نوره، وشكوت له من حبس القيروان، فقال: إنك لابد راجع إلى القيروان). وعندئذ تضرعا إلى الله طالبين الخلاص؛ فبشرهما بأنهما يمكن أن يرجعا إليه متى أراد، وإن كانا في الحبس، كذلك بشرهما بالخلاص. وفي آخر القصة يقول السهروردي : ( وبقى معي من اللذة ما لا أطيق أن أشرحه…).
إن القارئ المتأمل والمتمعن لهاتين القصتين يرى أنهما قد رمزتا إلى العلاقة بين الله الخالق والإنسان المخلوق، التي متى صفت كانت النفس أكثر صفاءً إلا أنه على الإنسان أن يكابد عناء الوصول إلى حالة الصفاء، وهي درجة روحية لا يبلغها إلا القليل، وهم أولئك الذين تمكنوا من هزيمة جيوش الشهوات، وهي من أعتى الجيوش وأقواها، وكان قائدهم وحاديهم في هذه المعارك التي خاضوا رحاها هو العقل الذي رمز له ابن سينا بالشيخ (حي)، في حين يرمز له السهروردي بتلك الرسالة، وهذا العقل هو الذي يخرج الإنسان وينقذه من ظلمات الجهل، وينقله إلى نور العلم والمعرفة (الحق) الذي هو عند ابن سينا عالم ما وراء الحدود الثلاثة، وعند السهروردي فهو القصر المشيد فوق الجب، أما الجهل وظلماته فيرمز له ابن سينا بالغرائز الإنسانية التي تثيرها وتهيجها رفقة السوء، بينما يرمز له السهروردي بالجب.

من الواضح أن القصتين الرمزيتين قد هدفتا إلى إظهار قوة العقل والتي تجعل منه قوة متفردة ومتحكمة في الغرائز التي دائماً ما تورد الإنسان موارد الهلاك، والرمزية هنا تعني الإشارة إلى الطريق يسلكها الفرد بهدف الوصول إلى حالة الصفاء الروحي والسكينة والسلام النفسي، والراحة البدنية، وهي طريق شائكة يصعب ويشق السير فيها على كل مريد للوصول لتلك الحالة، يقول الرسول، الكريم عليه أفضل صلاة وأتم تسليم،: (عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات) . صحيح مسلم ج4/ص2174، كما يقول، أيضاً،: (خير الأعمال ما أكرهتم عليها). إذن فالطريق إلى الله صعب ووعر ولا سبيل إليه إلا بهاد يهدي إلى سواء السبيل، وهو العقل الذي هو حادي الإنسان إلى الحق (الله) الذي لا إله سواه ولا مناص منه إلا إليه.

اقرأ أيضاً: اقتصاد المعرفة

ثالثاً: قصة حي بن يقظان، عند ابن طفيل

من المؤكد أن ابن طفيل قد اطلع على قصتي ابن سينا والسهروردي، وتأثر بهما حينما أخذ يكتب قصته (حي بن يقظان)، حيث يقول: … فأنا واصف لك قصة (حي بن يقظان وأسال وسلامان) … ففي قصصهم عبرة لأولي الألباب وذكرى لمن ألقى السمع وهو شهيد .
وعلى الرغم من أن ابن طفيل قد قرأ القصتين؛ إلا أنه قد تفرد في قصته عندما قدم بطل قصته بشكل مختلف كل الاختلاف عن بطل قصة ابن سينا فالأخير نشأ نشأة طبيعية، بينما أضاف الأول إلى بطله صورة غير عادية تنبئ عن نشأته، فهو ربما يكون قد خرج إلى هذه الحياة عن طريق تولده من طينة في جزيرة من جزائر الهند، تحت خط الاستواء تتميز بأنها من أعدل بقاع الأرض هواءً وأتمها لشروق النور الأعلى عليها.
وبالرغم من غرابة هذه الفكرة إلا أنها غير مستبعدة على قارئ القرآن العظيم، فإن إرادة الله، جلت قدرته، قد اقتضت من قبل خلق آدم (عليه السلام ) من طين، والذي يقرأ القرآن العظيم يجد ذلك في غير ما آية من آي الكتاب الكريم: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن سُلَالَةٍ مِّن طِينٍ)  وقوله تعالى، (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنسَانِ مِن طِينٍ)، وقوله تعالى، (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِن طِينٍ)، وقوله تعالى، (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ)، وقوله تعالى، (فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَم مَّنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لَّازِبٍ).

ومهما يكن من أمر فإن بطل ابن طفيل قد جاء إلى هذه الدنيا وعاش فيها على الصورة والشكل الذي رسمه له المؤلف.

في الجزء الثاني سنستعرض مضمون قصة حي بن يقظان بعون الله

 

جميع الحقوق محفوظة لموقع اقتصاديو العرب © 2021